إسلام آخر، مسلمون آخرون

وحدها الشعوب الأكثر بؤساً وعوزاً من العرب تمكّنت من بناء منظمات جهادية إرهابية لها أرض وسلاح ورجال: الأفغان، وقد سبقوا الجميع، بـ”طالبان” و”القاعدة”، ومعهم الباكستانيون؛ ثم أفارقة الصحراء الجنوبية، وعلى رأسهم النيجيريون، قادة منظمة “بوكو حرام” الإستعبادية، طليعة المعترفين بدولة “داعش”، والمعلنين عن التوأمة مع هذه الدولة على بقعة من الأرض النيجيرية، تمدّ مهاراتها الجهادية نحو التشاد ومالي والنيجر.
وحدها الشعوب الأكثر عوزاً، تمكّنت جماعة منها من تلقي المال، ومن إيجاد الأرض وأهلها، ليكونوا أول المتلقين لأحكام الشريعة العقابية. أما بقية الشعوب الإسلامية الأخرى، فلم تعرف فصائل جهادية، ولا هذا النوع من الإسلام المنفلت من كل قانون ومؤسسة وأرض وأوطان وأخلاق وتاريخ. فالإسلام التركي حافظ على تركيا، وإن حاول حرف علمانيتها بتأسلم قائدها الواحد أردوغان. وإسلام ايران تقنّنه مؤسسات الدولة الإيرانية نفسها، السابقة على الثورة الإسلامية وعلى عهد الشاه نفسه. فيما اندونيسيا وماليزيا تتابعان، كل بمفردها، طريقهما نحو الإزدهار والإندماج بالعالم ومنافسة متوسطيه، وتفسّران إسلامهما على أساس هذه الطريق. وحدها الشعوب الشقية قادرة على خلق دواعش في حواضرها، قادرة على جذب التمويل والتسليح الذي تقتضيه إقامة الدولة الداعشية.
إذن، ثمة تلازم بين واقع المسلمين العرب، وبين رؤيتهم العميقة للإسلام، مهما قال أصحاب الشأن من كلام معسول حول إن إسلام “داعش” ليس إسلاماً، فيما هم لا ينطقون بفتوة رصينة واحدة تحرّم جرائم “داعش” باسم الإسلام. فالواقع ان المسلمين العرب، بتمريرهم، أو تسهيلهم أو سكوتهم المدوي عن “داعش”، وبعدم اعتراضهم على جوهر القانون-الشريعة الذي يعجّل تنفيذه قبل ان تهدأ غبار معاركه… هؤلاء المسلمين العرب هم على تماس حميم مع “داعش”؛ لذلك فان سخطهم على “داعش”، إذا صدر، فإنه لا يتجاوز حدود رفع العتب، أو العداوة السياسية أو التنافسية. فهم يحملون مثله قراءة شقية للإسلام، قراءة إنتحارية، هي عصارة قرن من الغمغمة والسكوت والتمرير، المعطوفة كلها على بؤس مادي وسياسي لا نظير له إلا في القارة السوداء أو في غياهب باكستان وأفغانستان. الخلاصة ان للمسلمين العرب قراءة لدينهم هي في الواقع إسقاط لواقعهم على هذا الدين. هم الآن في الحضيض، لم يبق لهم شيء من مجد دينهم عندما كان أسلافهم بصدد بناء حضارة غازية، منتصرة وثرية. إسلامهم على هذه الرؤية لأنهم يعايشون هذا الواقع تحديداً. ما يعني بأنهم إذا أرادوا تغيير قراءتهم لدينهم، عليهم أن يتغيروا، وفي العمق، وليس فقط من أجل تقديم “الصورة” المشرقة البراقة عن دينهم، الصالحة للإعلانات التجارية فقط.
وليتغيروا، عليهم أخذ العلم الحقيقي، وليس السطحي، بأنهم مهما كابروا، فهم الآن أبناء الحضارة الحداثية التي انتصرت منذ قرون، بكل مظاهرها واختراعاتها وقوانينها وانماط عيشها الخ. وهذه الحضارة، مثل الحضارة الإسلامية العربية، لها وقتها، هي دورة من دورات التاريخ، ونكرانها لا يبعث إلا على التشوّش والفصام. مثل ذاك الداعشي الذي يريد إعادة إحياء صدر الإسلام وهو يغالي في استخدام كل منتجات الغرب الحديثة، ليس التكنولوجية فحسب، وإنما أيضا الصورية الهوليودية.
وليدخل هذا الإحساس الى جلدهم عبر مسامهم، ويخرجوا من دمائهم سموم الكراهية المجانية المدمّرة، عليهم أن يتخلصوا من عقيدتهم الهويتية، التي تجعلهم لا ينظرون الى الشيء إلا من زاوية انهم مسلمون: يتزوجون، كما يحاربون، كما يتفاعلون، كما يستأنسون..بصفتهم مسلمين فحسب، وسنّة فوق ذلك. هذا التركيز المفرط على الهوية، فوق حالتهم المادية السياسية المزرية، حوّل دينهم الى دين منزوع الأخلاق والروحية، منكب على الطقوس الظاهرية، الفصامية كلها، وعلى عقوبات تتجاوز أحيانا حدود الشريعة نفسها.
ليتغير الإسلام العربي، يحتاج إلى ثغرات تاريخية، يمرّر عبرها صحوته من غيبوبته؛ ثغرات مثل شيء من السلام، أو السيادة أو الإزدهار أو العلم أو الإختراع أو الحرية. والحال ان الجماهير العربية الراهنة مشردة، نازحة، جائعة، عطشى، تعيش على الصدقة، تائهة عن مستقبلها..واقعة بين نيران الديكتاتوريات والميليشيات المذهبية، وفوضاهما الهائلة. هكذا تكتمل زوايا المعضلة: يحتاج الإسلام، لكي تتجدّد قراءته، إلى مسلمين آخرين، متعلمين، مستقرين، هانئين، فيما واقعهم الآن هو العكس تماماً. يحتاجون الى تغيير حالهم لتغيير قراءتهم لدينهم، ولكن هذا الحال، المتسبب لهكذا قراءة للدين، هو مثل سور الصين العظيم، يصدّهم عن أي أمل، عن أية حياة.
لا يكفي الآن، مع الداعشية، أن نعود ونذكر بعظمة الاسلام والحضارة الإسلامية الغابرة، فهذا من باب العلم المنثور وتعزية النفس. ولا يكفي أيضاً بأن نتجرأ فنعلن عن إلحادنا، أو قيام جماعات إلحادية؛ فالإلحاد أيضا عقيدة، تشبه أصحابها. ولم يعُد كافياً، أيضاً وأيضاً، قصر الكلام عن “صورة الاسلام”، وعن كيفية تحسينها. لقد تجاوز “داعش” كل هذه الإشكاليات، ووضعنا وجهاً لوجه مع السؤال الأعقد: كيف نتغيّر فعلاً، لنغيّر ديننا فعلاً؟
– See more at: http://www.almodon.com/opinion/eb9e7bfe-598d-4600-9493-6ae2eff543a1#sthash.6As7HTwA.dpuf

السابق
الذكريات المؤلمة هل تُنسى؟
التالي
الجامعات الخاصة: الأرباح قبل التعليم