من يخيفُ يهودَ أوروبا.. مسيحيّوها أم مسلموها؟

بالتزامن مع التظاهرات التي شهدتها مدنٌ أوروبيّةٌ تضامناً مع الفلسطينيّين خلال حرب غزة الأخيرة والمتواصلة لوحظ أن بعض المجلات الفرنسية والأميركية نشرت بشكلٍ بارزٍ تحقيقاتٍ حول اليهود الأوروبيّين ومخاوفهم من صعود العداء للسامية مجدّداً حتى أن مجلة “نيوزويك” نشرت غلافاً تحت عنوان “رحيل جماعي – لماذا يفرّ يهود أوروبا مرة أخرى؟” (8/8/2014).

رسمت “نيوزويك” بناءً على مقال كتبه آدم لوبور بعض الوقائع:
في بريطانيا تدفع الحكومة مليونين ونصف مليون استرليني لأمن المعاهد الدينية اليهودية،
في بلجيكا أربعة أشخاص قُتِلوا في المتحف اليهودي في بروكسيل في شهر أيار،
في فرنسا المعابد اليهودية تعرّضت لهجومات من الرعاع في تموز،
في إيطاليا رسومات وكلمات معادية خُربشت على جدران أحياء يهودية تقليدية،
في هنغاريا نائب في البرلمان يعتبر لائحة من اليهود “خطراً على الأمن الوطني”،
في اليونان 69 بالماية أجوبة سلبية في استطلاع حول الأنماط اليهودية.
مجلة “لكسبرس” الفرنسية نشرت في عددها 6 – 12 آب محوراً كاملاً تحت عنوان:

“يهود فرنسا هل هم محقّون في أن يخافوا؟”. وأياً تكن مناحي التحليلات مختلفة من المجلة أو من ضيوف المحور فكلها تلتقي على وضع علاقة اليهود الفرنسييّن بإسرائيل في أساس الالتباسات والمشاكل القائمة.
لا تكف “النيويورك تايمز” في الآونة الأخيرة عن نشر مقالات حول مسألة “عودة اللاسامية” في أوروبا. مع ملاحظة أن التغطية الأميركيّة، تحقيقاتٍ ومقالاتٍ، أكثر ميلاً لطرح المسألة باعتبارها متصلة بتقاليد العداء للسامية. في أوروبا وبسبب اتصال التغطية بوقائع يومية من الصعب تجاهلها، تبدو مسألة تأثير تأييد اليهود عموماً للسياسة الإسرائيلية على ازدياد العداء لهم في أوروبا أكثر حضورا أخذاً بالاعتبار ازدياد النقد الغربي الشعبي والثقافي للممارسات الإسرائيلية العسكرية من جهة، وتحميله المسؤولية لإسرائيل عن إغلاق أفق الحل السياسي مع الفلسطينيين من جهةٍ أخرى.
تجمع كل التحليلات التي نشرت حول الموضوع في الكثير من الصحف الغربية أن ازياد عدد المسلمين في أوروبا بات له تأثير كبير في نقد إسرائيل في الشارع الأوروبي، لكن هذه التحليلات ترفض أن يكون تحرّك مسلمي أوروبا وحده سبب ارتفاع منسوب نقد الرأي العام لليهود الأوروبيين.
يروي الكاتب كنان مليك في مقالٍ له في “النيويورك تايمز” قبل بضعة أيام أنه خلال ندوة على “البي. بي. سي” كان يشارك فيها منذ سنواتٍ قليلة فوجئ بالروائية إيفا فيغس، وهي ناجية من أحد تجمعات الإبادة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، تقول أنه لو كان بإمكان إسرائيل أن تضع الفلسطينيّين في غرف الغاز لفعلت (توفيت فيغس عام 2012.
… إلى هذا الحد يبلغ نقد النخب الأوروبية للسياسة الإسرائيليّة ومن ضمنها نخب يهودية.
السؤال المجدي هو ليس إلى ماذا يؤشّر ذلك بل هل يمكن أن يكون فعالاً على المستوى السياسي لصالح الفلسطينيّين؟
بين نقد إسرائيل والضغط على إسرائيل مسافة شاسعة تختصر كل العجز الدولي عن تغيير الواقع القائم في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
يقول كنان مليك في مقاله المشار إليه أنه قد يكون ملائماً للبعض أن يضع اللوم في هذه الموجة الجديدة من العداء للسامية على نمو “الاتجاهات الرجعية” داخل الجماعات االمسلمة في أوروبا. و يشير مليك إلى أن استطلاعاً من مركز أبحاث Pew Global Attitudes Project أظهر عام 2008 أن العداء لليهود زاد في معظم البلدان الأوروبية. في بريطانيا حيث يشكِّل المسلمون 4,6 بالمائة من عددالسكان زادت نسبة العداء لليهود 7,5؛ أما نسب الأشخاص الذين لديهم صورة سلبية عن اليهود في البلدان الأوروبية فتراوحت بين 9 و20 بالماية. لكن في أسبانيا حيث 2,3 بالماية من السكان مسلمون فان نصف هؤلاء السكان تقريبا في وضع سلبي حيال اليهود، وهذه نسبة زادت أكثر من الضعف في السنوات الثلاث الأخيرة. وفي بولونيا حيث يوجد فقط عشرون ألف مسلم، أي 0,1 من السكان، فإن أكثر من ثلث البولونيّين لديهم آراء معادية للساميّة.
تشهد أوروبا إذن اختلاط، أو الأدق تفاعل، نوعين قديم وجديد من العداء للسامية. القديم الأوروبي والجديد الذي يغذّي بعض القديم ولكنه لا يتحكّم بوجهته وهو السياسة الإسرائيلية. تأثير النوع الجديد حاسم في البيئات المسلمة في أوروبا لكن الصلافة التي يتلمسها الأوروبي العادي والتي تمارسها إسرائيل سياسياً وعسكرياً، وآخرها في غزة، تتحول إلى مادة مجدِّدة لعداء قديم للسامية. طبعاً من الإنصاف التذكير أنه دائماً وُجدت نخب يهودية أوروبية ومعظمها من اليساريّين تدين الاحتلال الإسرائيلي وتعامله مع الفلسطينيين. المشكلة العميقة هي أن هذه المواقف قليلة التأثير على موقف الدول الغربية غير الراغبة أو العاجزة عن جر إسرائيل إلى حل سياسي فعلي.
الملاحظة الأخيرة هنا تشكيكية فيها قدر من “العقل المؤامراتي” الذي من الصعب تلافيه في هذه المرحلة التي تنهار فيها دولٌ ومجتمعات عربية. الملاحظة هي:
هل من رابط بين ما يبدو في الغرب فضيحة عنفية إسرائيلية جديدة في غزة وبين هذه الموجة الإعلامية في صحف أميركية وأوروبية كبرى حول مصير اليهود الأوروبيّين؟ هل هي حملة موازية للتخفيف من التركيز على “الفضيحة” أم حصيلة موضوعية لشارع أوروبي انتقل إليه توتُّرُ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما لو أنه صراع مسلمي ويهود أوروبا مثلما حصل في شوارع باريس؟

السابق
الريّس: الاستهانة بخطر’داعش’ هو الخطر بعينه
التالي
من تعبئةٍ لحرب على سوريا إلى تعبئةٍ للتحالف معها؟