حِرف تراثية جنوبية مهددة بالإنقراض 

يوما بعد آخر، يتكشف الخوف من أن تموت الحِرف رمز السياحة الحرفية في لبنان ، وعلى مسافة اميال من إنطلاق موسم السياحة في لبنان، يسأل حرفيوه هل نحن على الخارطة؟، المؤكد في لعبة السياحة أن الحرف تحتضر، تعيش سكونها ومن بقي يعمل بها يسجل عتبه على الدولة، فهل سيكتب للسياحة الحرفية الحياة وسط زوبعة الواقع؟، وهل سينظَّم سوق حرفي يُعرف السائح على تاريخ لبنان في حرفة؟

حين تقصد أي بلد في العالم أول ما تفكر بزيارته “الأماكن التاريخية والتراثية”، في لبنان تنقلب الأية، في ظل غياب خريطة سياحية حرفية تراثية واضحة، يجد السائح عجزا في التعرف على حرف لبنان العتيقة هذا إن عرف أين يجدها.تشكل الحرف العتيقة في لبنان جزءا من ذاكرة “الضِيع الجنوبية”، تخبر طريقة حياتهم البسيطة وتسلك معها على درب الحرير الحرفي. ففي كل حرفة هناك قصة وذاكرة، وبين ذاكرة كل حرفي تسطر ثقافة جنوبية “أصيلة”.
المنجد والكندرجي والمبيض، الكوّى، المجبِّر العربي، الداية، صناعة السفن، الفخار، الزجاج وغيرها، حرف تركت بصمتها على جدارية “ألسياحة الحرفية”، التي يعود اغلبها الى اكثر من مئة عام فأين تقع تلك الحرف، وهل مازالت صامدة في وجه زلزلال التطور، وكيف يقاوم حرفيوها الواقع في ظل تراجع الإقبال عليها؟

التنجيد
في السوق العتيق في صيدا، وتحديداً في سوق البازركان، مازال المنجِّد والكوّى يثابران على العطاء في حرف ربّت وعلّمت أبناء أصحابها، في محل عتيق يفوق عمره مئات السنين، أكوام الصوف فيه تتبعثر تحت ضربات عصا حسن زبيب المنجِّد الوحيد المواظب على حرفته، ولم يكل يوما ولم يتعب منها رغم تراجع وتيرتها، يحاول زبيب رسم سياسية حرفية لحرفته “طالما الروح تنبض داخلي سابقى أقاوم الإندثار” تكفي كلماته لتؤكد عمق العلاقة التي تربطه بحرفته ” فانا اعمل بها مذ كنت، في العاشرة من عمري واليوم بلغت الستة والستين وليس سهلا ان تتخلى عن روحك وعطائك بسهولة”.
والتنجيد حرفة قديمة يدوية عمرها مئات السنين، ترتكز على الصوف- القطن- القماش المصنّع، من هاتين المادتين، والخيط المبروم من القطن الصافي، إضافة إلى “الإبرة” و”كشتبان” و”شمع عسلي”، كانت مزدهرة في ستينات القرن الماضي، تقتصر على “ألأغنياء فقط”، اليوم فقدت تلك الحرفة بريقها وباتت تعيش على الهامش “لا يوجد من يتعلمها أو يرغب بها، أضحت تحفة في السوق” بعد أن كانت رائجة في الماضي. وكان المنجد يقصد منزل العروس لينجز لها جهازها بينما هذه الحِرفة اليوم تحولت ذكرى”. جلّ ما يخشاه زبيب ان تذوب الحرفة في عصرنة الواقع، وغياب اللفتة الحكومية لها “لما يدفعوننا الى الرحيل بين أكوام الصوف يمضي يومه، يحمل قضيب خشب بيد وفي أخرى يحمل الصوف ينتفه ليصبح ناعماً، كلمة وحيدة يطلقها “رزق الله ع إيام العز للتنجيد، لم نكن نهدأ أو نتوقف عن العمل كان الطلب كبير عكس اليوم بالقطارة، هل باتت الحرف عالة على الدولة لما لا تحميها. في السابق كان التنافس بين الحرفيين على التطور سيد، اليوم بات التحدي من يصمد اكثر”، يرمي بكلماته على أكوام الصوف ينتفها علّه يشقي غليله من التساهل بحرف الزمن الجميل”.

سلال القصب
في محفل الماضي دوّن الحرفيون أسرار مهن وحياة ومجتمع قائم في حد ذاته، وكانوا الركن الأساس في بناء المجتمع، واليوم وبعد ثورة العصرنة باتوا على الهامش حتى أنّ احدا لا يتذكر وجودهم.
حرفة سلال القصب واحدة من الحرف المهددة بالإنقراض في جنوب لبنان، كانت ملاذ الفلاح والصناعي وربة المنزل واليوم باتت سلة القصب تحفة فنية تزين المنازل، وفي كفريا صيدا لا يزال ابو طوني يعمل في حرفة تعود الى عصور قديمة، يمضي جزءاً من نهاره يحيك أحجية القصب الذي يتحول في غضون ربع ساعة الى “سلة قصب” تركن في زاوية بقربه تنتظر من يشتريها، بيد ان تلك الحرفة تراجعت كثيرا وبدأت طبول رحيلها تقرع فمن يحميها؟
لأبو طوني رؤية اخرى” الحرفة هويتي ولن أتخلى عنها أرفض هجرها وإن هجرها كل الحرفيين”، للحرفة أصول وفنون ودقة” يقول طنوس فهي تمر بعدة مراحل بدءاً من “شراء القصب الذي يلين بالمياه، يقشر ويقطع نسلات متطابقة ، لننطلق في تركيب البدوة” قاعدة السلة” وصولا الى شَبْك القصب وجدله بنسلات أخرى “مفسّخة” من القصب الطويل المتفرع من القاعدة والموزع بتباعد متساو، وبعد الانتهاء من الارتفاع والاتساع المطلوبين، تشبك وتجدل “المسكة” العريضة؛ لتكتمل رحلة السلة، التي يصفها ابو طوني بالأعمال الشاقة الممتعة في آن ولكنها على شفير الموت.

المراكب الخشبية
وإذا كانت سلال القصب تعاند الموت، فإن حرفة المراكب الخشبية، التي راج عزها في مدينة صور، تنفض الغبار عنها وتحاول ان تصمد، في وجه هجمة التطور وغياب الراعي لها، وتشكل الحرفة ركن الصناعة البحرية، التي تعود الى أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة سنة، وحده إيليا بربور يزاول هذه الحرفة التي “يراها المتنفس الوحيد نحو الحرية”، وبرأي بربور “الحِرف يفترض ان تُكرَّم وتحمى، فهي لطالما كانت السند الإقتصادي للوطن”.
وتعتبر حرفة صناعة المراكب من اقدم الحرف على الإطلاق، لقد ورثها بربور عن والده وبدأ بمزاولتها في العام 1958، حيث أبحر من خلالها في عشرات من المراكب التي صنعها، وذاع صيتها في أصقاع العالم، حين أقدم بربور على صناعة مركب بمواصفات فينيقية، مقدمته رأس ورقبة حصان، وفي الخلف ذَنَبُ حورية بحر. يحاول بربور أن يمضي في حرفته، “ولكن دون دعم هل نكمل أو نصمد، للأسف تحولت الحرف القديمة الى لعبة شطرنج “، وبرأي بربور السفن تمثل تاريخ صور وإرثه ولكن من يحميه؟

الكندرجي
في سوق اللحم في النبطية، وتحديداً في إحدى زواياه تطالعك “مستشفى الاحذية” في داخلها يجلس علي الخياط، خلف ماكينته يداوي امراض الأحذية “خلع كعب، كسر سحاب مزق محفظة وغيرها من الاعطال الطارئة، والعم علي “عتيقٌ” في مهنة الاحذية يعمل بها منذ اربعين عاما توارثها عن عمه، ويعد واحد من ثلاث لا زالوا يواظبون على هذه مهنة” في مدينة النبطية.
تختصر حرفة الاسكافي تاريخ النبطية الحرفي، فقد كانت مقصد التجار للتبادل التجاري في القرن العشرين، وكان “حي السراي” معقل صناعة الاحذية التي كانت تصدر للخارج وإستمرت حتى العام 1993، اليوم تحولت الى مهنة “الفقير” ساعات طوال يمضيها الكندرجي، علي الخياط، خلف ماكينة فاقت الأربعين عاما طوّر المهنة وألاتها لتواكب العصر ولكن هل ستصمد، “أعوّل على الأيام ولكن وسط ضمور الحرفة وفقدانها لروح الشباب لا أمل بالحِرَف فيما في الغرب يحملون الحرفي على كفوف الراحات ويولونها عناية ولكن في لبنان الحرفة باتت في الحضيض”.
وسط كومة الاحذية يعمل العم علي فيما ذيلت أحد جدران محله الصغير عبارة “لا يوجد مهنة حقيرة بل أناس حقيرون” في تأكيد على قمية الحرف بحرقة يقول “كنّا ندخل في تنافس في صناعة الاحذية، اليوم بات الحذاء الجاهز أرخص وأقل تكلفة من صناعته يدوياً وبالتالي وسط غياب الدعم الحكومي، لا امل بحرفتنا وبعد عامين ستختفي أغلب الحِرف حينها لا مجال للندم”.
يجلس ساعات “يداوي علل” عشرات الأحذية التي تحوطه وعلب المسامير والأهم كتابات وضعها خلفه “لا يوجد مهنة حقيرة بل أناس حقيرون” في تأكيد على أهمية ومكانة الحرفة بالنسبة إليه”.

المكوجي
حِرف لبنان على المحك لا سياسة واضحه لحمايتها، ومن يعمل بها لا يعوِّل إلا على الذكريات الجميلة كما يفعل المكوجي جمال أبو النجا الذي امتهن مهنة كيّ الثياب في العام 1973 وكان “زبائني من مختلف شرائح المجتمع والأعمار، ولاسيما الذين لا يجدون وقتا للقيام بهذا العمل في المنزل، أو بسبب عدم مقدرتهم على التعامل مع حساسية ونوعية الثياب التي تحتاج للكي”.
مكواة ابو النجا مؤلفة من المعدن وصب الرمل، وهي قلما نجد مثيلا لها في لبنان، وقد حافظت على قدمها كتراث يدل على تاريخ المهنة وخبرة صاحبها معا، في محل متواضع في سوق صيدا القديمة قبالة القلعة البحرية، لتبقى شاهدة على مهنة تكاد تنقرض بمفهومها القديم، أمام المصابغ ومحال التنظيف والكي المعاصرة. فأبو النجا يعرف كيف يعيد للملابس رونقها،وبخاصة الصوفية منها، والتي تحترق بالحرارة الشديدة نظرا لوبرها الدقيق، وعلى الرغم من كل المعوقات التكنولوجية، يحاول أبو النجا ان ينعش حرفته، أقله بالحد الأدنى.
قالو يوماً إن حضارة شعب تتركز في حرفه، وقيل إن الحرف القديمة تجسد إقتصاد بلد برمته، ولكن في لبنان ضاعت “الطاسة”، وباتت الحرف من الماضي، ومن بقي يعمل بها مهدد بالرحيل بعد أن سطت “الألة” على كل شيء وبدلاً من أن تعمد الدولة اللبنانية إلى إقامة سوق الحرف تركت الحِرف، تواجه مصيرها الخطير، الكندرجي، المنجد، المكوجي، المجبر العربي، صناعة السفن، حرفة السلال وغيرها من حرف الأجداد، تعيش العزلة والرهان على المصير. ولكن على من تتلين مزاميرك يا حرف لبنان فعلى الحرف السلام.

السابق
مكتب الحريري: وصل فجرا وزار ضريح والده ثم توجه الى السرايا
التالي
سلام: اللقاء مع الحريري كان ممتازاً وسيصدر بيان عنه