لماذا يشكل إعلان «الخلافة» خطراً على الإسلام؟

ينطوي إعلان الخلافة من قبل الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على خطورة بالغة. ورغم كل الدلالات المنطقية التي تشير إلى عدم قابلية دولة كهذه للاستمرار لفترة طويلة، فإن هذا الإعلان يؤشر إلى خطرين رئيسيين على الأقل، في الجانب السياسي، بالإضافة إلى الجانب الفكري الديني.

في الجانب السياسي، استمرار هذا الكيان أمر مشكوك فيه، والأرجح سقوطه مع زوال الأسباب السياسية التي دعت جهات إقليمية ودولية لمساندته. وقد بدا واضحاً حجم الرفض الذي قوبل به هذا الإعلان خصوصاً من من قبل المرجعيات الدينية السنية. وهذا ما يفقد هذه الخلافة المزعومة أهم مقوّم من مقوّمات الاستمرار. حتى في ما يتعلق بفقه الغلبة، فاحتمال ضعيف جداً أن تستطيع هذه الدولة التغلب على القوى المحيطة بها وفرض سيطرتها خارج المناطق التي أدّت ظروف استثنائية وطارئة في المشهدين السوري والعراقي، إلى إتاحة المجال أمامها لبسط نفوذها فيها.

لكن هذا الإعلان، الذي جاء متزامناً مع إعلان البرزاني استقلال الدولة الكردية، يسهم في مشروع إعادة تفتيت المنطقة إلى كيانات عرقية ودينية ومذهبية، من حيث يدري أهل الخلافة أو لا يدرون. وتقسيم المنطقة على هذا الأساس يعطي شرعية للكيان الصهيوني، ويؤجج حالة الانقسام المذهبي والعرقي التي تفشّت كمرض خبيث في الأمة العربية والإسلامية. ففكرة «الخلافة» ليست طارئة على التراث الإسلامي، ولكن استدعاءها الآن من منطلق «مظلومية السنة»، واستحضار الدولة السلجوكية والزنكية، هما مكمن الخطر الفعلي على وجود الأمة ووحدتها.

غير أن ما يهمنا في هذا الإعلان هو الجانب الفكري الديني، هذا الجانب المرشح للاستمرار حتى بعد زوال هذه الخلافة، تماماً كما استمرّ خلال القرون الماضية، عنيت به الاختزال الناجم عن الاتجاهات «السلفية» في المقاربة الحَرفية لتفسير النص والمصادر الفقهية، من دون أخذ المعطيات التاريخية والسياقية في الاعتبار.

إن الشكل الذي ظهر به ابراهيم عواد البدري يحاكي إلى حد كبير الحلم والفكرة الرومانسية بإقامة الخلافة الراشدة، بدءاً من لقبه، «أبو بكر البغدادي»، الذي يستلهم أول الخلفاء الراشدين، مروراً بالخطاب الذي ألقاه بمناسبة توليه الخلافة، وصولاً إلى أول خطبة علنية له من داخل الجامع الكبير بمدينة الموصل.
هذا الخطاب وهذه الصورة، ينمّان عن فشل في التمييز بين ما هو ثابت ومطلق في المبادئ الدينية، وبين ما هو خاضع للتطور الزمني والبيئي. فإذا كانت أسس العقيدة وأسس الممارسات الدينية ثابتة، فإن الجانب العملي يأخذ بالضرورة أشكالاً مختلفة ومتغيرة، خاصة في مجال المعاملات حيث يجب مراعاة كل ما له علاقة بالسياق وبالتطورات الزمنية والثقافات والعادات المحلية. إن عدم التمييز بين ما هو ثابت وما هو نسبي وقابل للتغيير له عواقب وخيمة على قابلية هذا الدين على تلبية المتطلبات المعاصرة ومجاراة التطور الهائل الذي شهدته البشرية على مدى القرون الماضية. فلا يستطيع المسلمون الاقتصار على محاكاة نموذج تاريخي، مهما كان عظيماً، لكنه لم يعد باستطاعته الاستجابة لمقتضيات الحاضر.

إن الإخلاص للنبي وصحابته لا يقتضي بالضرورة تقليدهم في المظهر الخارجي، كاستخدام الملابس ذاتها، والكلمات نفسها، والأدوات (المسواك!!) نفسها، واعتبار كل ما لا يحاكي، من حيث الشكل، ما فعله الرسول وصحابته، هو بدعة.

وعظمة الدولة الإسلامية الأولى لا تكمن في الشكل، بل في أنها استطاعت تطبيق المبادئ الدينية الخالدة بالنموذج الأشد ملاءمة لذلك الزمان. والتطبيق السليم لهذا النموذج لا يكون بإعادة استنساخ الشكل بقدر ما يكون باستلهام روحه وأهدافه. فلا يجوز الخلط بين المبادئ والنماذج، وبين الأحكام وأشكالها، ولا يجوز اختزال الإيمان بحنين غير مسؤول إلى الأصول، يحاول محاكاة تركيبة سياسية تاريخية معينة، هي دولة الخلافة، مع رفض أي شكل سياسي آخر. ويتعين تحديد الطرق المحتملة لتطبيق مقاصد الشريعة بحسب متغيرات الزمان والمكان، عن طريق العقل الذي عليه اكتشاف العلاقات المختلفة بين النصوص والسياقات المتنوعة.

لم يشكل العنف المتبادل بين الشعوب قديماً أزمة أخلاقية أو قيمية. فكان الرجم والصلب وقطع الأعضاء، بالإضافة إلى السبي والاستعباد واقتسام الغنائم والقتل الجماعي وغيرها من العقوبات أو مما يحصل في الحروب، ممارسات تبدو طبيعية في زمانها، في الجاهلية وبعد ظهور الإسلام، عند اليونان والرومان والقبائل الأوروبية البربرية كما عند المسيحيين والصليبيين وشعوب الشرق الأقصى وغيرهم من كافة شعوب الأرض. لكن التطور البشري، سار بالتأكيد باتجاه المقاصد الجوهرية للشريعة الإسلامية وكل الشرائع السماوية، أي باتجاه حفظ النفس البشرية وسعادتها: «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» (طه، 2). إن تجميد المنطق في الزمان الأول للرسالة هو ما يطبع الدين بطابع التخلف والهمجية، ويدمغه بما يريد له أعداؤه من دمغة الإرهاب والعنف.

هذا الخلط بين الشكل والجوهر، وبين الثابت والقابل للتغيير، له عواقب خطيرة على الفكر الإسلامي، تؤدي إلى تبسيط رسالة الإسلام، وإلى استحالة مواكبة المبادئ الإسلامية للتطورات العصرية، وإلى منع أي إصلاح في قراءة النصوص وفهمها وتطبيقها في سياق تاريخي جديد.

السابق
كاظم الساهر في بيت الدين
التالي
الاشتباكات مستمرة بين الجيش والمسلحين في مرتفعات عرسال