كم مرةً انتصرنـا ؟!

لا يستطيع أي فلسطيني، أو أيّ مخلوق من أي كوكب، أن لا ينشلع قلبه، وهو يرى الأشلاء في غزة تسحب من بين الردم ومن تحت ركام البيوت .فالاطفال يموتون وهم لم يبلغوا بعد سنَّ الوضوء، والأمهات والآباء والأشجار وخزانات الملابس وأدراج البيوت وقطط الحارة والعجائز والشبابيك كلها تموت. في المقابل يجلس جمهور عظيم وهائل من المصفّقين الذين يتعاملون مع الحرب كمباراة كرة قدم، يريدون فقط فريقهم منتصراً وبأي ثمن ! ويتعاملون مع أعداد الشهداء كأرقام في البورصة لا كحيوات ثمينة لأناس كانوا هنا للتوّ، ولهم الحق في الحياة مثل هذا الجمهور تماماً، وحصّتهم في الحياة ومتعها وأخطائها وأعراسها مساوية لحصّة الجمهور تماماً !
لا ينزل الجمهور لأرض المعركة ولا تعنيه؛ وأكثر ما يمكنه فعله هو ايقاد الشموع أو ارسال شحنات من المياه المعدنية أو ارتداء قمصان مكتوب عليها “كلنا غزة” … يا لهول التضحيات الجسام !
يا للسخرية حين يشعر الجمهور فور عودته من المظاهرة بأنه قام بواجبه، وسقط عنه الفرض، وأنه الآن يحسب مع “المناضلين” فيما يحسب الذي لم يخرج للمظاهرة مع المتخاذلين !
فيما يتبارى جزء آخر من الجمهور بكتابة الشعر واليافطات، وهو جالس على الآرائك المريحة، يوزع اتهامات الخيانة أو صكوك الغفران !
بذلك ينشقُّ الجمهور على بعضه فهذا وطني وخرج في مظاهرتين وكتب ثلاث قصائد، وهذه ارتدت قميصاً أسود ورفعت العلم، وهذا خائن لم يخرج أمس ولم يكتب ولو مقطعين !
أمّا القتلى فلا أحد ينصت لصراخهم !
( وانا بالمناسبة أفضّل كلمة القتلى على الشهداء: لأن كلمة القتلى تظلُّ تذكّرك بوجود قاتل خلف هذا القتل، وبأنَّ هناك مجرماً يستحق العقاب، أمَّا كلمة الشهداء فهي تشعرك لبعض الوقت بأن ثمة مكافأة الهيةً على شكل لقب ثمين صُرفت للقتيل وانتهى الأمر ! ).
في المقابل تشعر بالنشوة حتماً وأنت ترى وتسمع الصواريخ لأول مرة في التاريخ تضرب مطار بن غوريون والشمال المحتل.
لكنَّك تسأل نفسك : ما تعريف الانتصار ؟
كيف استطيع أن أقول الآن، أو لاحقاً، حين تنتهي الحرب، اننا انتصرنا ؟ ما هو المقياس، وما هو الفارق الدقيق الذي سيكون بين نتيجتين ” “انتصرنا” أو “هزمنا” ؟
لأحصل على إجابة لهذا السؤال عليَّ أن أعرف قبل ذلك ما هو الثمن الذي تقدَّر به روح المواطن الفلسطيني عند قيادته ؟!
ولنكون في صورة الإجابة أسوق لكم المثال مما حدث اليوم، عن الكيفية التي قيل انه اختطف بها الجندي الاسرائيلي، حيث قالت الأخبار أن استشهادياً فجَّر نفسه بالجنود ليشغلهم وفي الأثناء تتم عملية الأسر!
ابتهج الجمع بالحكاية ولم يتوقف أحد عند الذي فجَّر نفسه !! أليس انساناً وقيمته تعادل قيمة المخطوف !! لماذا نقتل واحدا منا لنأسر واحدا منهم ! أليس هذا اعترافاً بالغ الخطورة برخص ثمن “واحدنا” ؟!! لماذا نتعامل مع مواطنينا ومدنيينا كما لو أنهم مجسَّمات من الكرتون وليست حيوات ثمينة وغالية ؟!
في الحقيقة كنتُ أعرف دائماً أن العسكريين في أي حرب يموتون لأجل حماية المدنيين، لكنَّها الحرب الأولى التي يموت فيها المدنيون دفاعاً عن العسكريين، وهي الحرب الاولى أيضاً التي تبنى فيها الأنفاق للعسكريين فيما يواجه المدنيون مصيرهم وحدهم !
لمن ندَّخرُ هذا الجيش تحت الأرض مثل كنزٍ ثمين إن لم يكن لحربٍ كهذه ؟! ومتى سيخرجون للقتال !
حتى أنَّنا لا نشاهد خلال الهدنة أو اخلاء الجرحى والقتلى دفاعا مدنياً أو مجموعات للانقاذ أو لتوزيع الخبز والماء او رفع الركام . عائلات القتلى ترفع الركام بأيديها عن قتلاها وتشيعهم !
وغداً، حين تنتهي الحرب، سيكون مطلوباً مني ان أصفّق لذلك الذي سيخرج من تحت الأرض بدشداشة بيضاء مكويّة ليعلن النصر الإلهي !!
لن يكون مسموحاً لي أن أسأله كيف انتصرت ومتى وما معنى الانتصار؟ لن يكون مسموحاً لي أن أقول بأن الذين سنفاوض عليهم مقابل الأسير اعتقل أضعافهم خلال الحرب !
هل يساوي اطلاق حياة الأسرى قتل أضعاف عددهم من الناس !
في علم الرياضيات البسيط أيهما أكثر ربحاً أن يكون لديَّ 500 أسير+ 1500 مواطن حي أم 500 أسير محرَّر+ 1500 شهيد ؟!
وهل معبر مفتوح على مقبرة كبيرة أفضل من معبر مغلق على شعب حي !؟
وفي علم العسكر والحروب فإن الذي يدفع بشعبه وأهله الى حربٍ غير محسوبة عليه ان يحاكم بتهمة الخيانة خصوصاُ وهو يقيم في قصر مكيَّف خارج البلاد كلّها !
لكنَّنا وفي الوقت الذي بدأت الشعوب العربية في ربيعها موجة هدم الأصنام والتوق للحريات؛ يصنع الفلسطينيون أصناماً جديدة يحرّمون حتى الحديث عنها، او انتقادها .
وتحاط هذه الأصنام بجماعات من المهللين المصفقين الذين يرقصون حول نارها المقدسة، ويهتفون كأي غوغاء لا تفقه في السياسة أو المنطق او العلم وإنما تخوض الحرب بالشعارات والهتاف والتكبير !
البعض الآخر يقول ناصحاً أنه ليس وقت النقد. اذا متى وقته ؟ حين ينتهي سكان غزة بالكامل ونرفع فوق جثثهم راية الانتصار العظيم !
..
لا أوسمة في هذه الحرب ولا أبطال، ولا تحاول أن تلقِّنني الوطنية، وأنَّك حريص على أهل غزة، الحريص عليهم هو من يحاول انقاذهم من حربٍ خاسرة لا من يدفعهم اليها ويصفّق كلّما زاد عدد الشهداء.
والبطل هو الذي هناك، على الأرض أو تحتها، وليس الذي في المظاهرة أو في الفيسبوك، فلا تشهر شعاراتك وهتافاتك المبحوحة في وجهي ، ان كنت بطلا حقاً اذهب الى هناك الآن !
الأبطال هم فقط مَن يقتلون هناك في غزة. وخلال قراءتك هذه المقالة سيكون قد سقط على الأقل عشرون شهيداً لم يسمعوا هتافك وتكبيراتك !

السابق
مقتل 160 فلسطينيا في يوم الهدنة «المعطلة»
التالي
النهار: الراعي لانتخاب بنصاب الأكثرية