أميركا على خطى بني عثمان

ماذا يعني إنسحاب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، وإمتناع أوباما عن ضرب قوات الأسد التي تمرّدت على “خطه الأحمر” القاضي بعدم ضرب السوريين بالكيماوي، بعدما حشد للضربة عسكرياً وإعلامياً، وتعفّف أوباما، منذ بداية الثورة السورية، عن تسليح عسكرييها؛ ثم بعد ذلك، تقديمه جرعات هزيلة من السلاح غير الاستراتيجي، ثم إمساك أوباما عن التدخل في العراق لإنقاذ حليفه، وحليف طهران، نوري المالكي من تخريب “داعش” للعراق وسوريا، وتحطيم هذا الأخير للحدود الدولية التي أقيمت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى؛ وتعهده ببضعة “مستشارين وخبراء”، وبرقصات ديبلوماسية من دون حساب.
هذا هو أقصى ما يمكن أن يقدمه أوباما.

في هذه الأثناء، استولت القوات الروسية على شبه جزيرة القرم، وخرقت الحدود الشرقية لأوكرانيا بقوات أخرى ذات طابع ميليشياوي، رداً على توق الأوكرانيين نحو الغرب. والحدث سابقة، لم يحصل نظير له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فيما الردّ الأميركي عبارة عن عقوبات اقتصادية “قاسية” بنظر أوباما، لم تتماشَ معها المجموعة الأوروبية، لأنها تنال من مصالحها واتفاقاتها التجارية مع روسيا.

من يتذكر التدخلات العسكرية في العالم، قبل العراق وأفغانستان، من تنظيم الانقلابات العسكرية المتتالية في أميركا اللاتينية، وأشهرها عام 1973، ذاك الإنقلاب الذي أطاح برئيس جمهورية التشيلي المنتخب لتوّه ديموقراطياً، سلفادور ألّندي، لصالح طغمة عسكرية بقيادة أوغوستو بينوشي، لا تقلّ بربرية عن بشار الأسد. أو أبعد من ذلك، تلك الحرب الطاحنة التي خاضتها أميركا في فيتنام، وانتهت بخروجها منها مهزومة على يد الثوار الفيتكونغ، عام 1975.

واللائحة تطول، ولكن مجرّد المقارنة البسيطة تملي علينا الإنتباه إلى أن الولايات المتحدة هي الآن في بداية طور تقهقرها؛ وإن هذا الأمر لا يسرّ، لأنه يعطي الحياة للوحوش النابتة فوق فراغات أحدثها هذا التقهقر. وهذه المسوخ، في منطقتنا بالذات، اسمها طهران وموسكو وأنقرة وتل ابيب… هؤلاء اللاعبون الأساسيون على مسرحنا، يزداد حجم أدوارهم على خشبته، كلما ضعفت السيطرة الأميركية على العالم وعلى المنطقة.

خذْ مثلاً إسرائيل؛ منذ ثلاثة عقود إلا قليلاً، كانت الولايات المتحدة “عرابة السلام في الشرق الاوسط”، ناشطة مكوكياً وبمنهجية عالية من أجل إنجاح قرارات مؤتمر مدريد للسلام. في عهد بوش الإبن، تراخى هذا الإنكباب، وأخذت “العرابة” تمارس دورها بالكثير من الشكلية، تغطيها بخطابية عالية عن “السلام”. أما اليوم، فلم تعد أميركا تبالي كثيراً، لم تعد تكلّف نفسها… فانقض الجيش الاسرائيلي كما لم يفعل يوماً على الجسد الغزاوي، وارتكب ما لم يكن ممكنا ارتكابه من قبل، على مسمع ومرأى العالم كله. هذا الوحش الأول ينفلت الآن من عقاله، لا تجد أميركا الكلمات لتواسي ضحاياه؛ عدا لازمتها الرتيبة “ندعو إسرائيل الى ممارسة ضبط النفس لحماية السكان المدنيين…”.

الوحش الثاني أكثر براعة ومكراً، هو إيران الإسلامية؛ بقيت سياسة هذه الدولة ترفع شعار أولوية محاربة “المشروع الأميركي في المنطقة”، وهي عالمة في دواخلها انه، لولا إصابة أميركا هذه بنواحٍ من الضعف، منذ ثلاثة عقود، لما كانت إيران قادرة على محاربة “مشروعها”. والدليل إن الأمر معها انتهى بمفاوضات، بدأت سرية (تصور، كنا نصدح بجوارحنا خلف محور إيران لسقوط “المشروع الأميركي”، فيما إيران تتفاوض سراً مع صاحبة هذا المشروع!) وانتهت بخريطة طريق لمفاوضات “النووي”، بين إيران و”الكبار”، أي أميركا تحديداً، تدور حول تراجع إيران عن بعض بنود مشروعها النووي مقابل وقف العقوبات الأميركية والغربية. ولمتابعي هذه المفاوضات، يمكن الملاحظة، ومن دون أي عناء، إن إيران تصرّ على شروطها، فيما أميركا تعدلها، وخلف ستارتها، تفاوض حول حصة توكيلات عدوتها المزعومة في شؤون بلداننا. المسوخ لا تقتصر على الدول وحسب؛ إنما التنظيمات أيضاً. في ظل “الباكس أميركانا” (السلام الذي فرضته أميركا كما كانت تفرضه روما)، لم يكن ممكناً نمو تنظيمات مثل “حزب الله” أو “داعش”، أو الميليشيات الأوكرانية المدعومة من روسيا، والتي حولت أشلاء ضحايا أسقطها أحد صواريخها إلى طعام للغربان، مثل “داعش” في عقوبات الصلب!

ربّ قائل ألف حجة وحجة ضد هذا الكلام. وكل حجة أصحّ من الثانية؛ إذ إن بداية التقهقر الأميركي تعني إننا نمر، وسوف نمر بمرحلة انتقالية، تتعايش فيها عظمة أميركا مع انحطاطها. ربما ما يفيدنا في تصوّر هذه المرحلة الإنتقالية هو قياسها بزمن الإمبراطوريات. أي إنها قد تدوم بقدر ما دام انهيار إمبراطورية قريبة منا، العثمانية؛ أكثر من مئة عام، و”رجل الشرق المريض” ينزف ويتراجع ويقدم “التنظيمات” كدليل ملموس على تراجعه (1839)، إلى أن ينهار رسميا عام 1920.

بناء عليه، إن أول ما علينا مراجعته فعلاً، من دون تحيّزات سياسية، هو شعار “أولوية” محاربة الإمبريالية الأميركية؛ لأنه يعمي البصيرة عن التحولات الجارية لدى هذه الامبريالية، ولا يسمح بالتالي بفهم القليل من مترتّباتها؛ أي الامساخ الصاعدة بقوة فراغات خلقتها هذه التحولات. هذا لا يعني طبعاً، إلغاء الشق الثاني من الشعار، أي “أولوية” محاربة إسرائيل. ذلك ان إسرائيل، مع أميركا المتحولة هذه، سوف تزيد شراسة، مثلها مثل كل الصاعدين الجدد في المنطقة، لا تزيد عنهم إلا صراحة. وهؤلاء جميعاً يستحقون الأولوية في الحرب عليهم، أو “مقاومتهم”.

السابق
في عيد الجيش، كلام خارج عن المألوف!
التالي
سليمان: الفراغ يضعف موقع الرئاسة فيما المطلوب تقويته