يوميات الموت بعيداً عن فلسطين

غداً عندما تنتهي الحرب. هذا ما يقوله جميع أصدقائي. سآخذ عائلتي وأرحل، قال لي صديقٌ من غزّة. سألته عن إمكانية حدوث ذلك والفرص المتاحة أمامه. كنت أجبن من أن أخبره أنّي رأيت صاروخاً ينزل لينسف شاشته ويبقى حديثنا من دون نهاية. كنت أعدّ الحروف وأتسلّل يومياً إلى صفحته لأعرف أنّه لا يزال هناك، يوضّب حقائب ما بعد الدمار.

غداً عندما تنتهي الحرب. هذا ما يقوله جميع أصدقائي. سآخذ عائلتي وأرحل، قال لي صديقٌ من غزّة. سألته عن إمكانية حدوث ذلك والفرص المتاحة أمامه. كنت أجبن من أن أخبره أنّي رأيت صاروخاً ينزل لينسف شاشته ويبقى حديثنا من دون نهاية. كنت أعدّ الحروف وأتسلّل يومياً إلى صفحته لأعرف أنّه لا يزال هناك، يوضّب حقائب ما بعد الدمار.

قد يتحول العيد إلى نوعٍ من الحماقة في ظل الدخان الّذي يخرج إلى سمائنا. قد يصير العيد أيضاً، لمن لم يعد يحتفل به، نوعاً من الضرورة. تتحوّل الأمنية أن تستطيع أن ترسل إلى طفلٍ فلسطينيّ تحت القصف دمية يحتمي بها. أن تخبره، كما أخبروك صغيراً، أنّ الله يرى كلّ شيء وأنّه لا بدّ للظلم أن ينتهي. هذا الطفل هو أنت أيضاً، محاولة لإعادة إقناع نفسك بالخرافة القديمة.
نحن أتفه بكثير ممّا نظن، أصغر من صاروخ يقع فوق رؤوسنا وينهي حياتنا. نحن الّذين نعدّ القذائف ونحصي الجثث، ظنّاً منّا أنّ هذا الموت بعيد. ننظر إلى أطفال غزة عبر شاشة “التلفاز” أو “الكمبيوتر”، نضرب كفّاً بكف. ننصرف إلى شؤون أخرى، الأكل والنوم والخصام مع الأحبة، انتقاد الأصدقاء، التحليلات السياسية، لننسى كم أنّ هذا الموت حيّ.
تصبح فجأة فكرة العيد مغرية. أفتح خزانتي بحثاً عن ثوبٍ جديد. أبيض. أزرق. أحمر. ثم ألبس بنطلوناً عادياً وأقود السيارة باتّجاه المكان الّذي آتي منه. أصبح فجأة أكثر تعلّقاً بفكرة البيت والعائلة. أفكّر مرات عدّة، على الطريق، أن أعود أدراجي. لا شيء اسمه عيد. أصرخ كالأمهات العصبيات والمضطربات نفسياً وأشتم السائق الذي عبر بسيارته قربي بسرعة. أفكّر أنّ أعيادنا ما عادت مكتملة منذ توفيت جدتي وخالي المفضّل وقبلهما من غاب. وفي الصالة، حين نشعر جميعاً بغصّة جماعية لغياب “الخال”، أرى أطياف الشهداء.
أعرف أنّي أكره كلمة شهيد، لكن لشدة ما أشعر بالعار، صرت أعترف بها. خالي رحل من دون أيّ خلف. شقيقته تحزن للفكرة. يأتي صوت الأخرى: “أحسن”. أفكّر في سرّي: هل يجب أن يتوقف أهل غزّة مثلاً عن الإنجاب؟ هدنة. لا هدنة. موت. لا موت. صورة الدخان تشبه التنين والعيد يخنقنا بين راحتيه. كم تبدو فكرة الفرح بعيدة. كم تبدو فكرة الفرح مغرية.
غداً عندما تنتهي الحرب. هذا ما يقوله جميع أصدقائي. سآخذ عائلتي وأرحل، قال لي صديقٌ من غزّة. سألته عن إمكانية حدوث ذلك والفرص المتاحة أمامه. كنت أجبن من أن أخبره أنّي رأيت صاروخاً ينزل لينسف شاشته ويبقى حديثنا من دون نهاية. كنت أعدّ الحروف وأتسلّل يومياً إلى صفحته لأعرف أنّه لا يزال هناك، يوضّب حقائب ما بعد الدمار.
فكرة الهروب والرحيل واللّاجدوى. أردت أن أقول له أيضاً، بعد سنوات ممّا يشبه الاغتراب، أنّنا نرحل عن الجغرافيا ونبقى مسكونين بالمكان. لا أعرف لماذا أصبحت صامتة هكذا. أقرأ آخر أخبار “داعش”. أضحك وأنا أفكّر أنّ ملابس العيد القادم للأطفال ستكون مزوّدة بالأحزمة الناسفة. أريد أن أكتب عن الشرخ بين المسلمين والمسيحيين، عن أنّ داعش ومن وراءها لا يستهدفون الطوائف، بل الاعتدال.
يقول لي صديق آخر: أكتبي عن فلسطين. ماذا سأكتب أمام هذا الموت. لا أريد أن أكتب شعراً، ولا عن صمت العالم وفجاعة ما يحدث. ماذا تفعل الكلمات لأطفال أحرقت الحرب دفاترها؟ حتّى فكرة أن نجهش بالبكاء ونحزن كثيراً صارت تشعرني بالبؤس. أعود إلى حياتي العادية. أحضّر كوباً من القهوة وأفتح “اللابتوب” لأفعل شيئاً.
صديقي المخرج الجزائري أعدّ فيلماً عن كيف يقاوم الفلسطينيون الموت بالشعر. قال لي العام الماضي إنّنا نستمر في الكتابة أو الفن أو الإخراج وصناعة الأفلام كي لا نغرق في الكآبة، كي لا نستسلم لها. إنّها وسيلتنا الوحيدة للاعتراض، لنشعر أنّنا لا نزال أحياء. عندما نتوقّف، لا بدّ أنّنا سنموت. أفتح “اللّابتوب” وأكتب نصّاً لكي أحاول أن أخترق سرّ كلّ هذا الموت. أكتبي نصاً يشبهك، أقول لي. لا عيد، يقول لي شحوب الجثة. عندما نتوقّف، لا بدّ أنّنا سنموت. أكتبي عن فلسطين، تقول أنت لي. فأفعل.

السابق
توقيف 28 مطلوبا 46 دراجة نارية و13 سيارة مخالفة
التالي
الدولة الاسلامية تحدد اللباس الشرعي للمرأة