الجندي اللبناني الهارب: وهم المناعة حيال المتطرفين

ليس عاطف سعد الدين، الجندي اللبناني الذي انشق عن الجيش والتحق بـ «جبهة النصرة»، فاراً عادياً من الخدمة على ما أشار بيان للجيش اللبناني! فشريط الفيديو الذي ظهر فيه ليشرح أسباب فعلته تضمن خطاباً «أهلياً» سياسياً متماسكاً، هو امتداد لخطاب شريحة سنية لبنانية آخذة بالاتساع. يجب أن يُصفع اللبنانيون بهذه الحقيقة، فـ «داعش» وأخواته شرعوا بالزحف إلى لبنان من اتجاهين، الأول داخلي يتمثل في ما يمكن أن نسميه «ضائقة السنة اللبنانيين»، وهي ما ضمنه الجندي الفار في شريط الفيديو الذي بثته «النصرة»، لجهة تخبط «وجدان» الطائفة بحقائق طغيان «حزب الله» على الدولة وأجهزتها و»تملّق» السياسيين والوزراء السنة الحزبَ وسياسته على حساب «أهل السنة».
أما الجهة الثانية التي تزحف منها «داعش» إلى لبنان فهي الحدود بعد أن وهنت وتلاشت بفعل التحام الطوائف التي تقيم على طرفيها، وبعد زوال الفروق والحواجز. ويمكن الإشارة رمزياً إلى هذا الزحف في شريط الفيديو نفسه. ذاك أن جنود «القاعدة»، ظهروا أيضاً في الشريط يهنئون سعد الدين على فعلته، ويعانقونه عناقاً دافئاً، بعد سنوات من العلاقات الباردة التي أمضاها الجندي الشاب في الجيش اللبناني.
«النصرة»، على الأقل، هي الحضن السني الدافىء. هذه المعادلة ليست صحيحة بالكامل في لبنان، لكنها صحيحة في مناطق كثيرة منه. فتية من الأحياء الفقيرة في المدن، والضواحي الناشئة حول طرابلس، وكثيرون من سكان المخيمات الفلسطينية، علقوا أعلام «داعش» وشعروا بأن أبا بكر البغدادي هو حقاً الخليفة القادم. التعامي عن هذه الحقيقة لا يفيد إذا ما كانت هناك فعلاً نية للمعالجة.
ما زال في الإمكان القول إن هؤلاء لا يمثلون «المزاج السني»، وإنما هم هامشه وطرفه، وإن السنة في لبنان هم أهل مُدن بالدرجة الأولى ولا تخاطبهم الميول الراديكالية. هذا صحيح إلى حدٍ بعيد، ولكن يجب أن تُرفق هذه الحقيقة بسؤال: أين هو المتن السني اليوم؟ إنه في «تيار المستقبل»، أليس كذلك؟ والجواب هذا يفضي أيضاً إلى ضرورة أن يُقرن بأن ثمة هامشاً يتسع على خاصرة هذا التيار. فـ «المستقبل» وفق فتية الهوامش لم يستجب رغبتهم في «المواجهة»، ووزراؤه تآمروا على «أهل السنة»، ورئيسه مسافر ومُبعد.
انشقاق سعد الدين، وإن بدا فعلاً فردياً، ولم يندرج في سياق أوسع من الانشقاقات السنية عن الجيش اللبناني، يبقى إنذاراً ونموذجاً. ذاك أن الريف السني لطالما رفد الجيش بالجنود، بعد أن كفّ المسيحيون عن الالتحاق به، واستوعبت مؤسسات «حزب الله» العسكرية والأمنية والاجتماعية الكثير من الشبان الشيعة الذين في عمر الجندية. الانشقاق مؤشر إلى أن الجندية غير محصنة، و»النصرة» التي بثت الشريط تعرف أثره في نفوس كثيرين. انشقاق جندي من الجيش ليس واقعة كبرى. ربما يحصل هذا كل يوم في جيوش كثيرة. لكنه سابقة إذا ما أرفق بشريط فيديو، وبخطاب أهلي طائفي يكاد تماسكه يفوق تماسك الخطاب الرسمي للطائفة. والسابقة يُبنى عليها في عرف «القاعدة» وخبراتها.
أثر الفعلة أقوى من الفعلة نفسها. هذه هي المعادلة الجديدة التي أتتنا بها الأشرطة المسجلة المبثوثة عبر «يوتيوب». فأنت حين تسجلها وتبثها تكون قد أعطيت لمستقبليها نموذجاً للاحتذاء. تحويل الفعل إلى موديل وشحنه بقوة العدوى، وهذه التقنية فعالة جداً في بيئة محبطة ومصابة في وجدانها.
يميل اللبنانيون هذه الأيام إلى نسبة الكثير من الوقائع إلى ما يسمونه «الأفعال الفردية»، أو «العناصر الخارجية»، منزّهين بذلك نفسهم «الجماعية» عن احتمالات الانزلاق إلى راديكالية تعمّ المنطقة بأسرها. التفجير الأخير في فندق «دي روي» في الحمرا نفذه غير لبنانيين، إلى أن كشفت الوقائع أنهم كانوا برعاية لبنانيين، تخطيطاً وتجهيزاً، وأن المنفذ هنا لم يكن سوى الوسيلة. كانوا أيضاً لبنانيين أفراداً ونخباً وليسوا جماعات وأحزاباً.
تكرر هذا الجواب، وتوجهت وحدات من القوى الأمنية إلى مجمع «سيتي كومبليكس» في طرابلس حيث كان يختبىء المُخطط «الفرد» منذر الحسن، وقتلته بعد أن رفض تسليم نفسه. كان لبنانياً قادماً من السويد، ويحمل جواز سفر سويدياً، وأهله في لبنان لا يعرفون أن ابنهم هنا! وكم خلّفت هذه الحقائق راحة في ضميرنا الجماعي. فهذا العنف ليس وليد خبرات لبنانية. إنه عنف قادم من السويد، والدليل أن شقيقَي هذا «الفرد» كانا سبقاه إلى لبنان ثم إلى سورية، ونفذا عملية انتحارية مزدوجة في تلكلخ، وكانا أيضاً «فردين» وليسا جزءاً من عنفنا غير الفردي.
لا تحتاج «داعش» إلى بيئة أوسع لكي تنشط، هي أصلاً تنظيم نخبوي لا يرتكز على قواعد اجتماعية واسعة. ما تحتاجه هو فقط القابلية للتجنيد، وهذه صارت متوافرة وبكثرة في الكثير من بؤر التوتر اللبنانية. فتية حانقون، وفقر وفصام اجتماعي واضطرابات في بنية العائلة وفي قوامها، ولحظة سياسية مواتية. هذه العناصر شديدة التوافر في لبنان، وهي هنا مضافٌ إليها علاقات بمهاجر قريبة وبعيدة وحرب في بلد مجاور وحزب طائفة أخرى يُقاتل «الطائفة الأمة» فيها. فما الذي يُحصننا إذاً؟
منسوب الخطاب «الداعشي» آخذ في الارتفاع في الكثير من بؤر السكن السني في لبنان. يُمكن لكلمة واحدة أن تنفي هذه الحقيقة، إذا ما أراد المرء التعامي عن الوقائع. يمكن لسياسي سني أن يقترح عليك رحلة بسيارته إلى منطقة باب التبانة في طرابلس لتعاين بأم عينك خطأ ما تدعيه! ولن تُشاهد هناك أبا بكر البغدادي طبعاً، وستُلاحظ أن الجيش اللبناني منتشر بهدوء وأن الأهالي يريدونه ويقفون إلى جانبه.
لكن عليك ألاّ تنسى أن «داعش» ليست على قارعة الطريق، وأن الأهالي يريدون الجيش اللبناني ولكن ما يجري خلف بعض الأبواب ليس بالأمر العابر. عليك ألاّ تنسى أن أوضاع السنة في لبنان تشبه في هذه المناطق أوضاعهم في سورية وفي العراق لجهة وقوعهم خارج حديقة السلطة وفي منطقة طموح «داعش»، وهذا ما لا يمكن رصده من نافذة سيارة.

السابق
المالكي يتحدى رسائل المرجعية و ‘حزب الدعوة’ مهدد بانشقاق
التالي
النهار: مجلس النواب يخترق الازمة الداخلية بجلسة خطابية