إسرائيل.. حالة مرضية

في مزرعة كانت له بمثابة حدود الكون، اختار صموئيل جاكسون لعب دور «ستيفن» في فيلم django unchained، العبد المؤتمن على تسيّد مليكه أبناء جنسه وعرقه. المضطهَد الذي يمارس ضروباً من القهر بحق ذويه وأبناء جلدته. شبيهة شخصية ستيفن بشخصية يهود القرن الثامن عشر. في كتابه «الديانة اليهودية وتاريخ اليهود»، يتوقف الكاتب والأكاديمي إسرائيل شاحاك مستقرئاً ملامح التاريخ اليهودي في الغرب. كانت الأدبيات اليهودية الكلاسيكية، إبان القرون الوسطى وحتى القرن التاسع عشر، زاخرة بكراهية الفقراء. لم يكن اليهود من النبلاء البتة، لكنهم أنجزوا مهام الطبقة الوسطى والجباة، وكانت سمتهم التبعية أبداً لأسوأ نظم الإقطاع. هكذا ازدهرت اليهودية في كل من انكلترا في عهد وليام الفاتح وهنري الثاني، وفي فرنسا في عهد لويس السابع عشر، وهكذا كان دأب ييديش بولندا حتى نهاية القرن الثامن عشر.

 

لم تحز الشخصية اليهودية، حتى عند تحررها، رؤية مستقلة للذات بعيداً عن الميراث النفسي القديم. في العام 1956، لم تكن «اسرائيل» قد جاوزت عقدها الأول من العمر. كان كلٌ من موشيه دايان وشيمون بيريز متحفزاً الدخول في مغامرة عسكرية ضد مصر. لم تكن بريطانيا مهتمة بالدخول الإسرائيلي في أزمة السويس أصلاً، وفي ردها على تأميم القناة عبّرت المملكة عن نياتها «العمل منفردة»، بحسب ما كتب روبرت مورفي. حتى أواخر آب، قبيل تعيين شارلز كيتلي قائداً لقوات الحلفاء في الحرب، لم تكن بريطانيا أو فرنسا بصدد إشراك إسرائيل. لكن رغبة غولدا مئير وإصرار القادة الإسرائيليين، أثناء زياراتهم باريس، دخول حرب – أي حرب – ضد مصر، دفع باليسار الفرنسي المعجب بنظيره الإسرائيلي إلى التمهيد لدخول اسرائيل أزمة القناة.
في اجتماعات أيلول في العاصمة الفرنسية آنذاك، طلب سلوين لويد، وزير الخارجية البريطاني، أن تكون اسرائيل أول المبادرين للهجوم. رد بن غوريون بالرفض في بادئ الأمر. لم يرد لنفسه صعود منبر العار، أو أن يُشار لكيانه بأنه دولة معتدية، في الوقت الذي تبقى فيه أيدي الفرنسيين والبريطانيين بيضاء. لكنه عاد ووافق مذعناً في ما بعد. وعندما اندفعت قوات الجيش الإسرائيلي في سيناء، بأعداد تفوق المتفق عليه، وتحت وابل تغطية البحرية الفرنسية، عبّر دايان عن سعادته بالقول: صفقة كبيرة من وحش كبير لسمكة صغيرة. حتى مع تقدّم الجيش الإسرائيلي لمضيق تيران، كانت إسرائيل في وعي قيادتها لذاتها أبداً «سمكة صغيرة».
لم تكن إسرائيل البتة دولة امبراطورية. في تعليقه على دخول الجيش الإسرائيلي لبنان العام 1982، شكا الباحث والكاتب الإسرائيلي شلومو اهرونسون، من افتقار الأدوات الفكرية اللازمة لممارسة سياسات امبراطورية. بعد سقوط بيروت، وبرغم أن تلك الفترة كانت أكثر فترات الكيان انتصاراً، لم يثبت الجيش الإسرائيلي جدارته يوماً كجيش استعماري قادر على المناورة بدهاء وقوة، مثلما لم يكن قادراً على اجتراح انقسامات بنيوية في عموم المناطق المحتلة.
لم تحظ اليهودية إلى اليوم بدراسة هستوغرافية – نفسية شاملة. ثمة انعطافات ذهنية كبرى تعتمل في عقل اليهودي. كمثال، بعد المؤتمر الصهيوني السابع العام 1905، بدا التيار الأكبر في الصهيونية، بزعامة منظر اليسار بار بورخوف، منشدَّاً لفلسطين من منطلق تجديد العلاقة الروحية مع الفلسطينيين باعتبارهم العضو المفقود من الشعب اليهودي. لإسرائيل بلكيند، منظِّر الاستيطان اليهودي، رأي متقارب بعض الشيء. كان بلكيند مؤمناً بالرابطة التاريخية الوثيقة بين شعب اسرائيل القديم وسكان فلسطين في زمنه. لبن غوريون ويتسحاق بن تسيفي في العام 1903 بحث سوسيو – تاريخي. كان بن غوريون متحمساً للالتحام بالفلسطينيين، ومقتنعاً في قرارة نفسه بالأصل الإثني المشترك. بعد العصيان المدني العام 1936 وأحداث الخليل، شطبت الهيستوغرافيا اليهودية شطط الاتجاهات الفضائحية للصهيونية المبكرة. ومع «وثيقة الاستقلال» العام 1948، بات حديث المنفى ونفي الآخر – الفلسطيني تحديداً – مرتكز الرؤية الصهيونية للذات اليهودية من جديد.
كثيرة هي ثنائيات السياسة والوعي في التاريخ اليهودي. أواخر الثمانينيات، كانت أدبيات المؤرخين الجدد تميط لثام بعضٍ من جوانب الميثة التاريخية لليهودية الغابرة. لم يكن المنفى تاريخاً سكونياً أبداً. في كتابه «اختراع الشعب اليهودي»، عرّج شلومو ساند قاصداً بعض سرديات وأدبيات التاريخ اليهودي. مراراً تحولت اليهودية لنقيضها سياسياً، ومراراً وازنت اليهودية بين اعتبارات واتجاهات سياسية مختلفة. لا ينبئنا التاريخ بوجود كيان يهودي موحد طيلة «زمن التناخ» البتة. وحتى مع سليمان، لم تكن المسألة اليهودية أحادية الوجهة. في الألف الأول قبل الميلاد كان ثمة كيانان يهوديان سياسيان منفصلان ومتباينان، اقتسما معاً شرق المتوسط وقاربا الهيلينية والفرعونية. مرحلة الفتح الإسلامي كانت مثيرة أيضاً لتتبع انعطافات المسألة اليهودية. لعب اليهود في المغرب والمشرق أدواراً مختلفة. مع وصول المسلمين لأطراف المغرب العربي في العام 698، تمكنت يهوديت من هزم جيوش المسملين ودحرهم حتى ليبيا، لم تصمد يهوديت أكثر من سنوات خمس، قبل أن يتحول الوعي اليهودي تجاه المسألة الإسلامية. في العام 711، تحالف اليهود والمسلمون في فتح غرناطة، وسوياً دخلوا طولدو وإشبيلية. على الند كانت علاقة اليهود بالمسلمين شرقاً. الفترة عينها كانت مدعى صدام يهودي ـ إسلامي. لعب اليهود في مملكة الخزر الممتدة من كييف في الشمال حتى الموصل دوراً مختلفاً. بعد تمركز اليهود في مملكة الخاقان الخزرية، واجه الخزر الجراح بن عبد الله في أرمينيا، وبتحالف اليهود والترك والخزر أوقف الزحف الإسلامي شمالاً، وأُنقذت الإمبراطورية الرومانية الشرقية من السقوط المحتم.
كثيرة هي ثنائيات السياسة والوعي في التاريخ اليهودي. قديماً، كانت المسألة اليهودية عرضة تحولات واضطرابات مطردة. راهناً باتت اسرائيل أكثر تردداً وتوتراً، في تطلعها للغرب، وفي رهانها عليه. هل تؤول تحولات الراهن بإسرائيل لتتجه شرقاً؟ في العام 1934 سن الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين قانون «الجويش أوبلاست» لنقل يهود شرق أوروبا لأقاصي المنطقة المحاذية للصين الشعبية. أواخر الثلاثينيات من القرن المنصرم، كان إقليم بيروبيدجان – على الحدود السوفياتية الصينية – يشهد نمواً بفضل الهجرة اليهودية إليه. وبالرغم من خفوت الحافزية الصهيونية الاستيطانية فيه منتصف ذاك القرن، إلا أن الإقليم ظل على تماس مباشر والمحافل الدولية اليهودية. العام 1992، أعلنت حكومة الإقليم نفسها إقليماً ذاتياً يهودياً رسمياً. وفي نهاية الألفية الثانية استعاد الإقليم اهتمام منظمة الهجرة اليهودية العالمية.
يتزايد الاهتمام الإسرائيلي بالإقليم، في العام 2007، افتتحت جامعة بار إيلان البرنامج الصيفي الأول الخاص بالثقافة واللغة الييديشية في بيروبيدجان. وفي نفس العام رُفع الشمعدان الأكبر في العالم وسط عاصمة الإقليم. قد لا تُشكل بيروبيدجان اليوم قبلة المسألة اليهودية، لكن أصواتاً داعية للاستعاضة بالإقليم، من مثقفين من مثل كريستوفر بولين وميخائيل رينوف، بدأت تُسمع راهناً. هل تتجه اسرائيل شرقاً؟ تنبئنا الهستوغرافيا اليهودية بانعطافات كبرى في وعي اليهودي لذاته ومحيطه، لكنها وبالمثل تنبئنا أيضاً، بأن الانعطافات لا تحدث من طفرة محض ثقافية. ثمة اهتزازات سياسية – نفسية ستلمُّ بإسرائيل، وهي كفيلة بإعادة تدوير المسألة اليهودية. هل يشكل نصرنا القادم بارقة انعطافة الوعي اليهودي؟ على النصر ألا يكتفي بالجانب العسكري. وعلينا حتى ذلك الحين، إعادة تشريح المسألة الإسرائيلية باعتبارها حقاً «حالة مرضيّة».

السابق
وسائل اعلام إسرائيلية: الجيش الإسرائيلي يقول إن جنديا فقد في الهجوم على غزة
التالي
الافراج عن السوريين المخطوفين في الحلانية مقابل فدية والابقاء على الثالث مخطوفا