.. وَشَرُّ الطُغاةٍ ما يُضحك!

بول شاوول زياد الرحباني فيروز

غريب كيف صرت كلما رأيت دكتاتوراً، حيثما كان، في التلفزيون أو بالصورة أو سمعته بالصوت (وأصوات الدكتاتوريين من عسل ولبن) أضحك. وأحياناً كثيرة أقهقه: لماذا كل دكتاتور هو مُضحك؟ لماذا كل دكتاتور هو هزلي؟ ذلك أن هناك من التفاهة ما يثير الضحك، بالمفارقات والإشارات، والملامح، والزي، والجبهة، والعيون، والمناخير، وطريقة الوقوف، والجلوس، والمشي؟ ما الذي يُضحك الإنسان أكثر من رؤية كاريكاتور إنسان؟ وكأن كلمة كاريكاتور مشتقة من دكتاتور. ذلك أن الدكتاتور هو «شيء» سخيف، وأسوأ أنواع السخف ما يُسلّي، عندما تصبح الملامح مقيدة. محسوبة. ومدروسة. وجامدة. وصاخبة وفعلته في كلسها ودهانها وتبرجها عندما أرى بوتين على التلفزيون كأنني أرى بداية فيلم هزلي وكذلك المالكي وبشار الأسد، وصدام حسين، وعلي صالح، وبن علي… انسحاباً إلى ستالين، وماو تسي تونغ، وبينوشه. وكيف أنسى هتلر ذا «الكاريزما» المهلوسة والإشارات الموتورة، وشاربه المُربع، وفَرق شعرِه الأعوج. لماذا بت أضحك كلما شاهدت صورة أو لقطة أو سمعت صوتاً لدكتاتور؟ أنظروا إلى نتنياهو جيداً، على الرغم من «أناقته»، وتوازن ملامحه، لكن مع هذا عندما أرى هذا الشخص أضحك من تلقائي، حتى من دون أن يتكلم. وعندما يتكلم تكتمل مشهدية التفاهة المضحكة. حتى في أشد لحظات عنفه وجديته وغطرسته يثير في الضحك. لكنه من الضحك الطافح بالسخرية. والسخرية في النقد، أو في المسرح أو في الكاريكاتور، أو في السينما، أو في الأداء، هي شكل من أشكال الرفض، أو التدمير. إسخرْ تُدمَره.

هذا هو المعنى الكامن وراء «الكوميديا»، من موليير وغولدوني وتشيخوف وغوغول إلى شارلي شابلن (ولا تنسَ شكسبير في كوميدياته الرائعة، فإلى مسرح العدم، والسوريالية) وعندما نقرأ سخرية سعيد تقي الدين، كأنما نحمل معه مطرقة. وهكذا مع نجيب الريحاني، وشوشو. ذلك أن المسرح الكوميدي يفكك الشخصيات. لكن الدكتاتور، على أبهته، وكثرة صيانته الذاتية مفكك أصلاً. وهو لا يحتاج إلى من يفكك شخصيته ليضحك، أو ليسخر؛ هو كائن مضحك. مفارقة بين الناس: جسدياً، وروحياً، ومعنوياً. والمفارقة تعني الطرافة، على قدر ما تعني الغرابة.. تذكروا معي كل الطغاة الذي مرّوا بلبنان: من جمال باشا إلى القذافي، صدام، شارون وقبله بيغن ثم نتنياهو وبوش الإبن، وحافظ الأسد، تجدوا مادة للضحك الساخر، لا تنضب. حتى العنف الذي يمارسونه، على شعوبهم وعلى الآخرين، وبرغم وحشيته، يحمل مفارقات ضاحكة: يوتوبيا تافهة لعقول متضاربة. وقد برع كثير من الروائيين والمسرحيين العرب ومن أميركا اللاتينية، في تصوير هذه البلاهات، من ماركيز إلى سعدالله ونوس (فيل يا ملك الزمان)، إلى ريمون جبارة إلى محمود دياب إلى عصام محفوظ… ذلك أن كل ما هو تافه مضحك. لكن المشكلة أن هناك تفاهة مضحكة، وأخرى محزنة (وشر البلية ما يُضحك). تأملوا قرداً يحمل بندقية. يا للغرابة! تأملوا فأراً يعتمر قُبّعة… يا للحزن! تأملوا دباً تملأ صدره الأوسمة والنياشين! يا للقهقهة! بل عندما تتأملون دكتاتوراً يُقلّد قرداً، فقد يتسلل إليكم الأسف: ذلك أن القرد ليس دكتاتوراً أصلاً ليقلده الدكتاتور. وجربوا أن تتفرجوا على سيرك: الحيوانات المروّضة تقلّد الإنسان لكي تضحك الناس. فما بالك إذا كان الدكتاتور يقلّد الحيوان في سيرك فكيف يكون مشهد الفكاهة عندما يلغي الحدود بين السلوك الإنساني والحيواني. تأملوا المهرج (ذا الأنف الأحمر أو الأزرق) والملابس الفضفاضة أو الضيّقة، تتذكروا الدكتاتور في زيه العسكري، والمدني؛ رائع! رأيت البارحة نوري المالكي يدلي على التلفزيون بتصريح. من يقلّد هنا نوري المالكي: ربما النمر. أو الأسد. (لكن ليس الأفعى لأنها ذكية)، لكن، قطعاً لا يقلّد النمرُ نوري المالكي. إذاً: تفحّصوا حاجبيه، وأنفه، تروا شخصاً تفيض منه المفارقات المضحكة. ذلك لأنكم تكتشفون أن ما يقوله مجرّد كذب. فما بالك إذا حاول أن يعبر عن كذبه «بصدق» أوعن صدقه بكذب! هنا تحسّ أن هذا المخلوق قد تشرذم، إلى درجة يبدو فيها وأنت تسمعه، أن شخصاً وراءه يتكلم، وهو يفتح فمه ويغلقه. بل كأن الكلام لم يعد يصدر عن جسمه. ربما عن ثيابه وربطة عنقه وأزراره؛ لكن من دون أن يدرك جسمه. الكذب يحوّل الإنسان إلى شيء مُبهم. تأملوا جيداً أصابع الطغاة عندما يشهرونها، بحركاتها كلها، تُحسوا أنها خارجة إلى كائن آخر: إلى شيء آخر. وهنا تكمن مفارقة الضحك: تضحكون عندما يقطب الدكتاتور حاجبيه (كما يقطب بنطلونه) تعبيراً عن هيبته وعن صرامته أو يُفرج مناخيره تعبيراً عن انشراحه، أو يرفع رأسه تعبيراً عن كبرياء وشهامة ووطنية! أو عندما يحنيه تعبيراً عن تصميم داخلي وتفكير جدي غير موجود. كل هذه الحركات، ولأنها منفصلة عن بعضها، توحي منظراً مخيفاً، لكن تافه. أي مضحك. تأملوا جماعة حزب الله عندما يخطبون: غريب، كيف تختزل كل مفرداتهم وأصواتهم بسباباتهم. يصير الصوت سُبابة. والسُبابة عصا. والعصا بندقية. والوجه قنبلة: إنها عناصر الإثارة والترهيب. تأملوا كيف تتزاحم في عيونهم ووجودهم وأصابعهم البندقية. والوجوه.. والصوت: كيمياء غريبة، مصنوعة خصيصاً للتشويق المضحك. تذكروا حركات هتلر، تكتشفوا أنه يريد تحويل المكان إلى مسرح كوميدي، وخطاب كوميدي، وأداء كوميدي، لكن مساحة للجنون والقتل والفانتازيا (الغبية) والأحلام المهدرة على صوته، وشاربه (عند هتلر شارب واحد) وحركات يديه ورأسه، وملابسه، وغُرّته (مشهور بغُرّة شعره): يكتمل المشهد، لكن بعد نزوله، يمتلئ الفضاء بالغياب، والتصفيق، ويملأ النفوس بما يشبه الكركرات المعكوسة: الجنون! الجنون العظيم أمام «الآلهة» وهذا ما يذكر بموسوليني: قطعة تمثال يدُه في ظهره، وعيناه في ظهره، ولسانه في بطنه، وعقله في قبعته. والآن، تابعوا معي «مناظر» جماعة الصفوف الثانية من الدكتاتوريين: مثلاً الرئيس السابق إميل لحود. فماذا ترون. كتلة متوارية عن بعضها. مشدودة من ورائها وأمامها، إلى قطع محدودية أكبر منها، أي تقلّد بعضها. وهنا المُضحك. فعندما يمشي أحدهم كأنه اثنان أو ثلاثة، بل كأنه لا يستطيع أن يمشي وحده بلا عكاز الدكتاتوريين. تذكروا أحمدي نجاد: صفوة الكوميديا التجارية. أنظروا جيداً: هل عيناه هما عينان، ويداه هل هو يحركهما، أو تتحركان من دون أن يدري؟ وأحياناً يستدرك ويحاول ضبطهما، فتفلتان، وهنا قمة الكاريكاتور! أفلت منه الدور والكلام، وبقيت الحركات!

لكن الغريب، في التاريخ، وفي الحياة، وفي الواقع، أن الجمهور، ولأسباب كثيرة، يشغف بهذه الكائنات الغرائبية المشتتة، وغير المتسقة، وبدلاً من أن تضحكه تثير فضوله، فاهتمامه، فالإعجاب به، فالتصفيق له، فالانجرار وراءه… وهذه كوميديا جماعية مضحكة لكن مخيفة. محكومة بالعدوى. هذا ما حدث مع هتلر وموسوليني وماو تسي تونغ، وصولاً إلى «مجسدي» العنصرية، أو الطائفية، أو المذهبية عندنا. مثلاً أنا شخصياً يضحكني «الطائفي»، و«المذهبي»، و«العنصري»، كثيراً! ذلك أن المذهبية (أو الإيديولوجية) أمر مضحك وتافه وغريب، وغير معقول، ومجنون، وغبي، وغير مفهوم. وحتى الآن، لا أفهم كيف لا يكون المتطرّف الديني أو الإيديولوجي أو المذهبي مضحكاً، عندما تكون كل العناصر التي تكونه مليئة بالمصادفات، والمفارقات، والنرجسيات والغرائب والأعاجيب. وعندها لا يمكن أن ترى في هؤلاء سوى آنية تعبأ بالهواء، بالرمل أو بالميكروفونات. أو آباراً ترمى فيها الحجارة، والنوافل. وهذا «شر» ما يُضحك! ذلك أنه يجب أن تحسّ وأنت أمام أحد هؤلاء وكأنك أمام معجزة متواصلة وخرافات كابوسية، وحكايات فيها من السذاجة والخفة، ما فيها من الخيال! وعندما تراجع فصول الحروب التي أعلنت على لبنان منذ 1969، ترى وبكل بساطة، كيف حوّل الدكتاتوريون، والزعماء، كل هؤلاء الناس إلى مخلوقات اصطناعية متنافرة، إلى خيالات مهزوزة تصطدم ببعضها، أو إلى آلات تتحرك بلا تلقاء، وبلا حضور. إنها مَضحكة الغياب! وعندما تستحضر زعماء الميليشيات في تلك الفترة وصولاً (طبعاً) إلى حزب الله، تظن أنك كنت أمام كائنات صُنعت من خردة الحديد والرصاص والمعدن: قطع وصل وبراغٍ مختلطة. وهنا بالذات مفارقة أخرى: هذه القيادات المحكومة، والذليلة في ذاتها، تتماهى، بفعل الحروب بأبطال وجنرالات وشخصيات تاريخية، كنابوليون، وهنيبعل، وباتون، وديغول وغيفارا وتروتسكي وعبدالناصر وستالين ولينين. وهنا تقع المصيبة. يُجَن هؤلاء: فيمشي واحدهم كغيفارا وهو مخبر صغير، أو يضع نظارات تروتسكي… أو يمثل دور ديغول، من دون أن ننسى هتلر طبعاً! انفصام رائع! وما المفارقات الهزلية سوى تعبير عن انفصامات متصادمة، تصل إلى مرحلة الهلوسة العصبية، والنرجسية المتفجرة، والميغالومانية العالية التيّار. وهكذا يُصبح كل زعيم ميليشيا، أو قائد جماعة قروية، أو مدينية، ممثلاً درامياً، لكن بنص كوميدي. لكن «الأروع» في كل ذلك، عندما يصل الهزل إلى مستوى ميتافيزيقي ديني قُدسي فهناك «تعا شوف، وتفرّج يا سلام»! وكما تماهى بعضهم كما ذكرنا بالأبطال والفاتحين، فهذا «الجنس الإنساني» يتماهى بالله! وبالأنبياء. والرُسل! هنا تأخذ التفاهة بعداً «مقدساً».. «غرائبياً»، ويشق الضحك طريقاً صعبة (لكن ميسرة!). وما عليك سوى أن تتأمل هؤلاء «الدكتاتوريين» (أطفال الأنابيب) وهم يظهرون على التلفزيون أو في الجرائد: مجرمون مشهود لهم، ولكنهم يتماهون بالقديسين. يكذبون بصدق إيماني! يقتلون بإيمان صادق! وعندما يُطلّون، تحسّ أن «رائحة الجنة» تفوح من ثيابهم ومن أوراكهم ومن عيونهم. وتتصور هنا مشهداً هزلياً بعدة مشاهد: التقوى ناضحة في عين المارق، الورع يتسلّق اليدين، والأكمام، واللون الأسود، ثم يتربع على أنف «الدكتاتور» الصغير، ثم يعلو حاجبيه، ويغطي عينيه بملاءة ألوهية قدسية، يا للروعة. ولن يكون لك سوى الخشوع، والسجود، وكرّ السبحات، وأنت أمام هذه الهامة التي تتلبس الغيوب والأسرار والمعجزات والجنّات والجحيم.. فجأة يخيّل إلى المشاهد أنه يرى مشهداً جديراً بالآلهة، والأولياء والقديسين! وهنا بالذات مكمن الكوميديا. تضحك وتقول: ما أفظع هذه الكوميديا البيضاء من «طهارتها»، السوداء من قتامتها، الحمراء مما انهرقت عليها من دماء. هذا المشهد «الأبوكاليبسي» قد يتكرر بصيغة أخرى: عندما يعانق الدكتاتور الأطفال في مناسبة. آه! ومَن مِن هؤلاء لم «يتصوّر» بألبوم صور وهو يحمل طفلاً، أو يتلقى باقة ورد من طفل، أو يُقبّل طفلاً ويدغدغ شعره بلمسة حنان لا حدود لها. المضحك هنا تماماً، كما من قبل، أن سفاحاً نحر الرضّع في أحضان أمهاتهم، والأطفال، بالألوف، يظهر في مشهدية حُنُو، وأبوة، وأخوة، وأمومة (فالدكتاتور هو الأب والأم والأخت والأخ والجار والراعي). مشهد مألوف لا يختلف تماماً عن آخر يمثل الدكتاتور وهو يُصلي في الجامع أو في الكنيسة أو الكنيست: الله! جنون الدين في عينيه المسبلتين كغيوم نازلة من السماء. احتشاد الإيمان في جيبنه. التقوى على شفاهه. المحبة بين أضراسه. العطف بين أردافه! إنه مشهد كوميدي هزلي بامتياز، لأنه سخيف. وتافه. لعبة أدوار يجسدها سخفاء اسمهم الدكتاتوريون! إذا أردتم أن تتسلّوا، فما عليكم إلاّ التفرّج على هؤلاء في الشاشات الكبيرة أو الصغيرة… فإدمانهم التقوى أعلى قمة من السخرية أي من التدمير… أي من الضحك القاتل!

وهنا علينا أن نكمل المشهديات العارمة والمتخمة، وهي الأكثر مثاراً للضحك: الإرهابيون يعتلون المنابر ليدينوا الإرهاب. تأملوا هذه اللعبة الغريبة: نتنياهو يرفع صوته بلا حاجبيه، ويخفض حاجبيه بلا بطنه، ويصرخ بصوت نشاز: سنحارب الإرهاب. يقصد المقاومة الفلسطينية أف! حتى عندما لا ترى نتنياهو وتقرأ إعلانه تغفو من الضحك. بشار الأسد وضع عنوان «نضاله» ضد شعبه «مكافحة» الإرهاب! فما أرنّ كلمات الإرهاب في صوت إرهابي! وعندما تراه وهو يحاضر في ضرورة التزام مكافحة الإرهاب، ترفع يديك إلى وجهك، لتخفي ضحكة فاقعة ومفقوعة! هنا ما بين الشخص والكلام، ما بين المضمون واللفظ، تكمن المفارقة الهزلية… وهذا نوري المالكي، إرهابي من نوع قديم ومستهلك، يزمزم شفتيه، ويضبط عينيه، ويهتف بمحاربة الإرهاب! من أين كل هذا الضحك غير الشافي ولا الناجع. وعندنا في المقابل حزب الله الذي يتصدّر قائمة محاربي الإرهاب، وهو موصوف أصلاً بالإرهاب. وهذا لعمري، ما يجعلك كلما سمعت من حزب الله كلمة إرهاب، تفتح النافذة لتعينك على وقف ضحكة مدوية! كل هذا من هزليات الحزب الموروثة عن كوميديا ولاية الفقيه!

ونظن أن عبارة «وشر البليّة ما يُضحك» هي أفضل ما يُقال عن المهرجين من دكتاتوريين، وأبناء دكتاتوريين! لكن، متى ترى سنكف عن هذا النوع من الضحك، المليء بالدمع، والقتل، والمرارة، والجنون.

السابق
ماذا يُخبِّئ النظام السوري للمسيحيّين؟
التالي
حروب العرب على عواصمهم…