الثورات.. لا أمان ولا يقين

لم يكن من المتوقع أن يصير حال الأمة الى ما صار إليه في السنوات الثلاث الماضية، حتى أن الناس اختلفوا في توصيف ما حصل: هل هو الربيع أم هو الشتاء والعاصفة؟ وهل هي الثورة أم هي المؤامرة؟ وهل هي الصحوة أم هي الفوضى والغفلة؟

لم يكن هذا الاختلاف ترفاً او عبثاً. فما جرى في السياسة والاجتماع من تغيير ومن انقلاب في الاحوال، ومن انفلات للصراعات المذهبية، كان في الواقع خارج المألوف والتوقعات. فتارة نحن مع بداية ما سمي بعصر الاسلام السياسي، وطوراً، وفي أقل من سنة، نحن مع أفول عصر هذا الاسلام نفسه! فلم تكد التجربة تمسك بالحكم بعد انتظار نحو ثمانين عاماً حتى اطيح بها. وأدخل «الاخوان» السجون، في عودة دراماتيكية الى ما قبل الثورات.
اغتيل بن لادن عشية الثورات العربية. فقيل إن عصر الاسلام المعتدل قد بدأ وإن عصر التطرف الاسلامي قد انتهى ورمي في البحر. لكن ما جرى بعد ثلاث سنوات كان العكس تماماً. فقد اطيح بالمعتدل وعاد تنظيم «القاعدة» ومشتقاته ليشتد عوده ويتقدم مشهد «الثورات» السياسي والاسلامي.
انتعشت آمال التغيير مع «الربيع». إنها أخيراً وعود الديموقراطية في العالم العربي بعدما كتب الكثيرون ان هذا العصر لن يأتي مطلقاً. وبعدما وقف من وقف ضد فرض الاصلاح والديموقراطية من الخارج الذي نادت به الدول الغربية. . لكن حتى هذا الأمل ايضاً لم يدم طويلاً. فقد انفجرت الصراعات من كل اتجاه وفي كل اتجاه. لم تعد الثورات يقيناً، وتبخرت وعود الديموقراطية، وبات الأمل قلقاً وخوفاً، حتى من أن تتمدد الثورات وتتسع رقعتها. بات الخوف بعد الثورات على ما كان مرفوضاً وغيرمقبول قبلها. اصبح الخوف على الجيوش وعلى النظم وعلى «سايكس بيكو»… وبات الخوف من معارضة كانت الأمل عندما كانت طريدة المنافي، فباتت مع الثورات المفترضة نزيلة نجوم الفنادق الخمسة، يعين رئيسها مسؤول اميركي ويفرط عقدها مسؤول آخر.
إنها الفوضى الخلاقة إذن… عاد البعض الى تلك الأطروحة التي بشر بها «المحافظون الجدد»، بعدما اعتبروا انها سقطت او انتهت مع أفول نجم أولئك الذين نظروا لاحتلال العراق وأفغانستان… لكن ما يجري في اليمن وفي مصر وسوريا والعراق وليبيا ليس سوى عودة لتلك الفوضى. فهل هي حقاً فوضى «المحافظين الجدد» أو هي فوضى الفتاوى وانفلاتها من الاسلام السياسي «المعتدل» الى اسلام التكفير والخلافة والنصرة؟ أو أن هذه هي تلك: فوضى الخلافة والفوضى الخلاقة، لا فارق في الاهداف مهما اختلفت الأسماء التي سميت بها؟
لم يخطر ببال أحد من مؤيدي المشروع القومي أوالاسلامي أوالعروبي أوالماركسي أوالليبرالي… ان يأتي التغيير المنتظر، منذ صدمة المواجهة مع الغرب في القرن التاسع عشر، بمثل ما أتى به بعد الثورات. لقد انقسم اصحاب تلك المشاريع بين من يريد تقليد الغرب للاقتداء به، وبين من يريد التمسك بتراثه، وبين من يريد ان يجمع بين هذا وذاك. وبقي الأمر في الإطار النظري الذي لم يقدم اي تصور كيف يمكن ان تتحول المجتمعات الى تقليد الغرب، وكيف ستصبح عليه. أو كيف يمكن العودة الى التراث، أو كيف نجمع في حياة الناس وفي حكمهم بين هذا وذاك؟ لكن «الثورات»، وفي اقل من ثلاث سنوات حسمت ذلك الجدل الذي استمر عقوداً، وأخرجت من احشاء المجتمعات العربية ما كان يعتمل فيها من انتماءات وصراعات.
من يتأمل في أحوال الأمة بعد ثلاث سنوات من الربيع المفترض سوف يلاحظ ان الكثيرين ما عادوا يريدون هذه الثورات، ولا هم يثقون فيها. فلا هي حققت اهدافها ولا جلبت للناس التغيير والأمان. ولا يبدو ان ما يحصل هو مرحلة انتقالية نحو الأفضل. ثمة ما يعيد التفكير الى بداياته. ماذا نريد من التغيير؟ ما هي اولوياته؟ من هي القوى التي ستقود هذا التغيير؟ وإلى اين ستكون نهاية هذا المطاف؟ فهي ثورات بلا قيادة وبلا برامج عمل وبلا مثقفين، والكل يتبرأ من «الخلافة» التي افضت اليها. والسؤال هو كيف يمكن ان تنتهي الثورات الى ما لم يخطط له او يريده احد؟ الا اذا قيل خلاف ذلك. أي ان هناك من خطط ودبر ان تنتهي الثورات الى ما انتهت إليه.
من يتأمل في احوال ما جرى قبل ثلاث سنوات لن يجد بسهولة الإجابات عن تلك العلاقة الملتبسة بين الصندوق (الانتخابات) وبين الشرعية والديموقراطية في مجتمعاتنا.
فإذا كان الصندوق لا يعني الشرعية بالضرورة، وإذا كانت الانتخابات لا تعني التسليم بحكم الفائز، وإذا كان الفائز لا يستطيع تنحية العسكر. . يصبح السؤال بعد ذلك كله هو ما «نوع» الديموقراطية الذي يصلح لبلداننا؟ ثمة حاجة ملحة وضرورية للإجابة عن مثل هذا السؤال حتى ولو لم تضع الثورات اوزارها.
من كان يظن للحظة واحدة ان «الثورا ت« و«الربيع» التي اختلف الناس في تسميتها سوف تطلق من قاع مجتمعاتنا وحش التكفير الذي يتباهى بقطع الرؤوس وإعدام الأسرى وفرض الجزية، وفي الوقت نفسه يريد توحيد الامة بقوة السيف وفلق الهامات وإخراج ما فيها، كما قال خليفة المسلمين الجديد «ابراهيم» في خطبته الرمضانية. لم يخرج احد من الناس الى الشوارع من اجل هذه الخلافة ولا من اجل هذا التكفير. فمن اخذ «الثورات» الى هذه الهاوية؟
التعصب الديني يشطب كل الاحتمالات، ولا يتمسك الا باحتمال واحد فقط هو الإيمان كما يريده هو وكما يراه هو بلا اي معرفة وبلا اي ثقافة (الجهل المقدس كما ذهب الى ذلك اوليفيه روا)… عندما يصبح الإيمان هو المعيار الاول والوحيد للتعامل مع الناس، فهذا يعني دعوة الى إلغاء كل التباينات وكل الفروقات الثقافية والاجتماعية وكل هوامش الاختلاف… فاذا كان معيار قبول الآخر هو التأكد من إيمانه، فإن هذا لن يجعله وحده فقط في موضع الشبهة والريبة، بل سيحول العلاقات المجتمعية كلها الى علاقات شبهة وريبة، ولا يمكن احتمالها.
إن وجه الثورات اليوم يريد أن يلغي التنوع. لكن التاريخ الانساني كله لم يعرف مجتمعاً لم يكن فيه اختلاف او تنوع… وما فعلته الكنيسة في التاريخ الاوروبي عندما منعت العقل من التفكير واعتبرت كل رأي مخالف لرؤيتها تكفيراً وهرطقة انتهى بالانقلاب عليها وبتغيير وجه اوروبا ووجه العالم لاحقاً. وحتى في التاريخ الاسلامي، لم تتمكن كل اتجاهات التعصب او التفكير من القضاء على كل التنوع الموجود في المجتمع.
وقيل إن مصادر المعرفة الالكترونية واستخدام وسائط التواصل الحديثة سيؤديان الى تجاوز الانتماءات المحلية وإلى تكوين ثقافة إنسانية لا تحدها قبيلة او عشيرة او دين او حتى جغرافيا. لكن ما حصل طوال السنوات الماضية من تطور استخدام هذه الوسائط ومن الانخراط في التحديث ان التعصب الديني لم يتراجع بل زاد وتفاقم.. لا بل تحولت احدث الوسائل التكنولوجيه الى وسائط لنشر هذا التعصب، والى تجنيد المقاتلين «في سبيل الله». هكذا تبين ان نظريات الربط بين الحداثة والتكنولوجيا وبين تراجع التدين او تراجع العصبيات لم تكن واقعية، ولم تكن صحيحة.
من يتأمل في احوال الناس بعد «الثورات» سوف يلاحظ بسهولة انهم باتوا اقل أمناً وأكثر قلقاً. لا نتحدث عن بلد معين. في كل بلدان الثورات والربيع تراجع الأمن والأمل. لا يقتصر الأمر على من نزح او هجر او تشرد. ثمة شعور عام من انعدام الثقة واليقين. البعض بات يحن الى الاستبداد ويترحم عليه.

السابق
جبران باسيل بصدد تقديم شكوى ضد اسرائيل
التالي
نحو فدراليّة أمنيّة معقّدة