تحليل نقدي للخطاب الإخواني

في مواجهة الموقف الملتهب في البلاد عقب الانقلاب الشعبي الذي تم في “30 يونيو” لإسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين لم يسلم قادة الجماعة ولا أتباعها بالواقع السياسي الجديد. ذلك أنها رفضت خريطة الطريق ولم تقبل بشرعية ما تم من خطوات دستورية تنفيذاً لها، ورفعت شعار الحفاظ على الشرعية، وعودة الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي للحكم مرة أخرى

الواقع أن هذا الإنكار ورفض قبول الواقع يمثل ظاهرة تحتاج إلى تحليل علمي متعمق. وقد يكمن التفسير في ما يطلق عليه علم النفس السياسي “الجمود الإدراكي” Cognitive rigidity الذي قد ينتاب النخب السياسية في لحظة تاريخية ما، ويجعلها تعجز عجزاً مطلقاً عن القراءة الموضوعية للواقع. ومن المؤكد أن قادة جماعة الإخوان المسلمين أصابهم هذا العَرَض المرضي في مقتل، لأنهم لم يتوقفوا – رفضاً لخريطة الطريق- عن تحريض أتباعهم على استخدام العنف مع الشرطة والقوات المسلحة، والذي تحول ليصبح إرهاباً صريحاً يتمثل في زرع القنابل في محطات المترو، ومحاولة نسف المنشآت الحكومية، وآخر هذه المحاولات الإجرامية القنابل التي زرعت في سور قصر الاتحادية وأودت بحياة عدد من الضباط والجنود.
ومع كل ذلك دعَوْنا من قبل إلى ضرورة إقامة حوار مفتوح مع أنصار جماعة الإخوان المسلمين، إيماناً منا أن الحل الأمني -وإن كان ضرورة قصوى- لن يكون كافياً في التعامل مع الجماعة. ولذلك فنحن في حاجة علمية وسياسية إلى إجراء حوار علني مع أنصار فكر الجماعة، لكي نفهم كيف يدركون الأشياء، وكيف يفكرون، أو بعبارة أدق ما هي رؤيتهم للعالم World View، وكيف ينظرون للوضع السياسي الراهن في مصر سواء في الحاضر أو المستقبل.
وكنت أدرك أن هناك صعوبات جمة في سياق المناخ الملتهب السائد في مصر للقيام بهذا الحوار الذي يهدف للفهم العميق، الذي هو أساس أي توافق سياسي مستقبلي، ولذلك لم أفصل في قواعد الحوار ولا شروطه ولم أتحدث عن أطرافه.
وقد فوجئت في الواقع في جريدة “المصري اليوم” الصادر في الخامس من تموز 2014 بحوار بالغ الأهمية أجرته ببراعة الصحفية مها الشرقاوي مع المستشار أحمد مكي القاضي المعروف والذي كان نائباً لرئيس محكمة النقض، وشغل منصب وزير العدل في حكومة الدكتور هشام قنديل.
ونظراً للأهمية القصوى لهذا الحوار قررت أن أحلله نقدياً لأنه يمثل – إلى حد كبير- الخطاب الإخواني خير تمثيل، وخصوصاً في مجال تقويم تجربة الدكتور مرسي في الحكم، أو في تقويم الوضع الراهن، أو أخيراً في استشراف المستقبل.
وأريد في البداية – عملاً بالموضوعية التي ينبغي أن يتحلى بها الباحث العلمي- أنني في هذا التحليل النقدي لست حريصاً على تفنيد الأحكام التي صاغها القاضي الجليل المستشار أحمد مكي، وإنما أنا أركز على المناقشة الموضوعية لطروحاته.
بعد كل هذه المقدمات التي قد تكون قد طالت إلى حد ما أشير إلى أمور عدة مهمة. أقصد بالخطاب الإخواني المقولات الأساسية التي يصدر عنها أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والتي تحمل رؤيتهم للعالم، وكذلك أحكامهم عن فترة حكم الدكتور مرسي، وعن نوع إدراكهم للموقف السياسي بعد 30 يونيو. ومفهوم الخطاب مصطلح علمي ذاع في العلوم الاجتماعية في السنوات الأخيرة وأصبح احدى الأدوات المنهجية الأساسية في فهم الفكر السياسي بمختلف توجهاته، وكذلك في تحليل السلوك السياسي سواء للنخب أو للجماهير.
وقد قرر المستشار أحمد مكي في المقابلة أنه ليس عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، ولكنه مع ذلك يدافع عنهم وعن مطالبهم ويدعم رؤيتهم السياسية. وليس هذا غريباً على أي حال، لأن هناك مراتب مختلفة لمن يتبنون فكر جماعة الإخوان المسلمين. فبعضهم أعضاء عاملون يندرجون في شعب محددة ويدفعون اشتراكاتهم بشكل منتظم ويخضعون تماماً لمبدأ السمع والطاعة. غير أن هناك طائفة أخرى هم “المتعاطفون” مع الإخوان المسلمين، ويمكن أن ندرج المستشار أحمد مكي فيها، مع العلم بأنه لا تثريب علي أي شخص أن يكون متعاطفاً مع أي تيار سياسي يميني أو يساري، ما دمنا نقبل بالتعددية التي تمارس في إطار ديموقراطي.
ويلفت النظر أولاً صراحة المستشار مكي وموضوعيته في الحكم السلبي على تجربة جماعة الإخوان المسلمين في الحكم. فقد قال في سياق الرد على سؤال خاص بتقويمه بشكل عام للأجواء التي صاحبت العملية الانتخابية الرئاسية أن “الاستقطاب كان هو النغمة السائدة والجميع اعتبر أن إزاحة جماعة الإخوان المسلمين هدف كاف لانتخاب الرئيس. فكان من الممكن أن يزيح الإخوان أي أحد لكن الإزاحة تأتي بالطرق الديموقراطية وعبر وجود جماعة سياسية منافسة تغلبها”.
وأريد أن أقف قليلاً مع هذا الاعتراض الجوهري، ومبناه رفض الانقلاب الشعبي على جماعة الإخوان، ورفض تدخل القوات المسلحة والذي أدى إلى عزل الدكتور مرسي وإعلان خريطة الطريق، وعلى أساس هذه الفكرة المضمرة كان ينبغي الانتظار على حكم مرسي والإخوان لمدة أربع سنوات، وبعد ذلك إن كان الشعب يريد عدم انتخابه مرة أخرى فله الحق.
ويلفت النظر أن هذه الحجة التي تبدو وجيهه تماماً لا يتبناها فقط المستشار مكي باعتباره متعاطفاً مع الإخوان، ولكن يتبناها أيضاً مفكران مرموقان أحدهما ماركسي والثاني ليبرالي!
والواقع أن آراء المستشار مكي ومفكرينا الماركسي والليبرالي تجاهلت أن الديموقراطية تتكون من آليات وقيم. الآليات تتعلق فعلاً بنتائج صندوق الانتخابات، أما القيم فهي أكثر أهمية من الآليات، لأن من بينها قيمة أساسية هي قبول كل الأطراف السياسية لمبدأ التداول السلمي للسلطة، وعدم الاستئثار بالحكم، والحرص على الحوار السياسي المسؤول مع المعارضة.
والحقيقة أن جماعة الإخوان المسلمين كان لديها مشروع أساسي هو “أخونة الدولة وأسلمة المجتمع”. وقد بدأت فيه فعلاً بشغل مناصب المحافظين بأعضاء من جماعة الإخوان المسلمين للسيطرة التدريجية والمطلقة على الجهاز الإداري في المحافظات والمحليات، بالإضافة إلى محاولات ممنهجة للنفاذ إلى كلية الشرطة والكلية الحربية والقضاء، لزرع أعضائها فيها للسيطرة في المدى الطويل على المؤسسة الأمنية والقوات المسلحة والقضاء. ومعنى ذلك أنه في نهاية السنوات الأربع وحين تجري الانتخابات الرئاسية تكون الدولة بكل مؤسساتها قد سقطت في قبضة جماعة الإخوان المسلمين، والتي ستكون في موقع استراتيجي يسمح لها بإنجاح مرشحها للرئاسة ضماناً لديمومة الحكم الإخواني إلى أبد الآبدين! أهذه هي الديموقراطية حقاً التي تتحدث عنها الأصوات المعارضة؟

السابق
450 غارة إسرائيلية على غزة أوقعت 51 قتيلاً
التالي
جورج كلوني: أم أمل ليست درزية