بحثاً عن ’وستفاليا’ عربية

بعد مرور مئة عام على الحرب العالمية الأولى، لا تزال نتائج تلك الحرب تلقي بثقلها على واقع العالم العربي، وحتى على مستقبله. فالحرب التي أودت بحياة عشرة ملايين انسان وأصابت عشرين مليوناً آخرين بجراح، ادت الى أربعة تحولات أساسية هي:

1- قيام الاتحاد السوفياتي على أساس العقيدة الشيوعية

2- بروز ادولف هتلر على أساس العقيدة النازية

3- تقسيم الشرق الأوسط (سايكس بيكو) بين فرنسا وبريطانيا،ومنع قيام الدولة العربية الواحدة.

4- منح يهود العالم وعداً (بلفور) بتحويل فلسطين الى وطن قومي لهم. وكان هذا «الوعد» قد اعطته بريطانيا في 2 تشرين الثاني 1917 وبوشر بتطبيقه بعد الحرب.

انتهت الشيوعية السوفياتية مع نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين. وانتهت النازية بدمار ألمانيا واحتراق هتلر بعد الحرب العالمية الثانية.

أما الشرق الأوسط فلا يزال يتصارع بين الامال باستعادة وحدة الأمة وبين الواقع التقسيمي الذي صنعه سايكس وبيكو والذي يواجه الآن معادلة تقسيم المقسَّم وتجزئة المجزَأ. يتأثر هذا الصراع بعدة عوامل هي في ذاتها من مفرزات الحرب العالمية الثانية التي كانت في جوهرها امتداداً للأولى. وأبرز تلك العوامل:

قيام اسرائيل وتحولها من دولة صهيونية علمانية الى دولة دينية يهودية وتوسعية.

فشل بعض الأنظمة العربية في تحرير فلسطين أو ما تبقى منها. وفشلها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفشلها كذلك في احترام الحريات العامة وقيم الديمقراطية.

غير ان هذه الأنظمة نجحت في أمر أساسي واحد وهو ممارسة الاستبداد السياسي مستعينة على ذلك بولائها للغرب. لقد آثر الغرب مصالحه على مبادئه. وآثرت الأنظمة الاستمرار على البناء والتطوير. من هنا تشكل الاعتقاد بأن الغرب :

1- منع قيام الدولة العربية الواحدة.

2- قسّم العالم العربي الى دول، والدول الى دويلات.

3- حمى الاستبداد السياسي وأجهض محاولات التحرر منه.

4- اقام اسرائيل ودافع عنها، بل انه حمّل الفلسطينيين خاصة والعرب عامة ثمن سياسة اللاسامية التي مارسها الغرب ذاته ضد يهود أوروبة، بما في ذلك جريمة الهولوكوست.

وعندما انطلق ما يعرف بحركات «الربيع العربي»، كانت انطلاقتها عفوية شكلت ظاهرة جديدة في تاريخ التحولات الاجتماعية. فقد بدأت من دون مشروع سياسي أو فكري أو إصلاحي، ومن دون قيادة فردية أو جماعية انطلقت على أساس المطالبة بالكرامة الانسانية وبحقوق المواطنة. غير أن تنظيمات الاسلام السياسي التي كانت تترصد تحت الأرض، بادرت الى مصادرة الفرصة الجديدة. فتمكنت من الاستيلاء على السلطة في مصر كما في تونس. وهكذا انتقلت بحركة واحدة وبصورة مباشرة من تحت الأرض الى سرايا الحكم. جرت عملية الانتقال بمنهجية تقوم على الشعارات وليس على الرؤية والبرمجة، واعتمرت جلباب الماضي أكثر من التخطيط للمستقبل. لم تكن هذه الحركات الدينية المتطرفة مستعدة للحكم، ولم تكن مؤهلة تنظيمياً وفكرياً له. ولذلك كان طبيعياً أن تتعثر.. وأن تصطدم بوقائع وعقبات متداخلة. أما الوقائع فتتمثل في تقويل الاسلام ما لم يقله. وأما العقبات فتتمثل في الوجود المسيحي العام المنتشر في الدول التي شهدت حركات الربيع. وجد الاسلام المعتدل والمسيحيون أنفسهم معاً في جبهة وطنية واحدة. حاولت حركات الاسلام السياسي المتطرف تخويف الاسلام المعتدل من خلال استفزاز المسيحيين وتوجيه الضربات اليهم (إحراق كنائس واعتداء على رجال دين). وكانت في ذلك تراهن على رد فعل مسيحي متطرف، وعلى تحرك خارجي متعاطف بحيث يمكن توظيف رد الفعل والتعاطف معه، في عملية تدجين المسلمين الآخرين واحتوائهم.

ولكن الاسلام المعتدل تصدى للتطرف بحكمة وعقلانية. وذلك من خلال مبادرات الأزهر الشريف الذي أكد في وثائقه على المواطنة والحريات العامة ؛ ومن خلال مواقف المجتمع المدني الرافضة للتطرف الإلغائي للآخر.

نجح هذا التصدي:

في مصر: من خلال عزل حركة الاخوان المسلمين ومن ثم اسقاط حكمها.

ونجح في تونس من خلال تحجيم حركة النهضة الاسلامية، ومن ثم استيعابها في تحالف وطني جديد.

وفرض ذاته في سورية من خلال التصدي للتجمعات الاسلامية المتطرفة (داعش والنصرة..)

وهو قائم في اليمن من خلال الحرب على تنظيم القاعدة،

كما هو قائم في الأردن من خلال إصرار النظام والمجتمع المدني على ليّ ذراع حركة الاخوان المسلمين. ويعني هذا النجاح ان حركات الربيع التي قامت في الأساس ضد الاستبداد السياسي وجدت نفسها معرّضة لأن تصبح رهينة الاستبداد الديني وهو أسوأ وأخطر. فثارت عليه، وعملت على مواجهته وحتى على اسقاطه كما حدث في مصر وتونس.

يحتاج هذا العمل حتى يحقق نجاحاته كاملة الى تفهم غربي (أوروبي أميركي) والى انفتاح مسيحي مشرقي، كما يحتاج الى تكامل العامليْن.

لقد أثبت الانفتاح المسيحي جدواه في مصر. إلا انه يحتاج الى تشجيع. ومن مستلزمات التشجيع وجوب استبعاد الغرب في لغته السياسية منطق حماية المسيحيين. ان المطلوب هو دعم المسيحيين في مطالبهم الوطنية، وليس حمايتهم. فالحماية توحي بالتبعية، وهي ليست مطلوبة مسيحياً ولا هي مقبولة اسلامياً. والتبعية توحي بالهيمنة، وهي مرفوضة من حيث الشكل والاساس، مسسيحياً واسلامياً معاً.

ومن مستلزمات ذلك، تجنب استعداء الاسلاميين بحيث يصبح الاستعداء شاملاً الاسلام كله. ان المطلوب هو دعم الاسلام المعتدل، الذي يقول بالدولة المدنية وبالحكم للشعب، وبالحريات العامة بما فيها الحريات الدينية، وبالديموقراطية (وثيقة الأزهر) وبحرية الضمير (دستور تونس)، وبالدولة المدنية (وثيقة عمان).

ومن مستلزمات ذلك أيضاً، تعريف المجتمعات العربية الى مواقف بناءة اتخذتها وتتخذها كنائس ومؤسسات انسانية غربية، منها:

أ- مقاطعة جامعات في أميركا وأوروبة للجامعات الاسرائيلية.

ب- سحب استثمارات وودائع كنسية أميركية من اسرائيل (الكنيسة المشيخية).

ت- مقاطعة بضائع المستوطنات اليهودية بقرار من الاتحاد الأوروبي.

ث- احترام حقوق المسلمين كمواطنين في الدول الغربية والسماح لهم ببناء مساجدهم.

لا يمكن اهمال حقيقة مهمة وهي أن حركات الاسلام السياسي تتحفظ على أي تحرك غربي، وهي لا تثق بالنوايا الغربية أساساً. انها تتصرف كمن ينفخ على الزبادي اللبن- بعد أن كوى لسانه الحليب الساخن(من الحروب الصليبية في القرون الوسطى الى الاستعمار الحديث، الى قيام اسرائيل وتسليحها وتغطية جرائمها والدفاع عنها، والى حماية أنظمة الاستبداد السياسي). ولكن ذلك يمكن معالجته بتنقية الذاكرة وبالمزيد من الانفتاح والمبادرات الانسانية والمواقف السياسية العادلة.

فالشرق الأوسط يعاني في الوقت الحالي الجفاف المعرفي المتمثل في الأمية المرتفعة، ومن الجفاف الطبيعي المتمثل في شح المياه (والذي كان أحد الاسباب غير المعلنة للانتفاضة السورية)، ومن جفاف فرص العمل المتمثل في ارتفاع نسب البطالة وسوء توزيع الثروات الوطنية.

كما يعاني الشرق الأوسط دوران التسوية مع اسرائيل في الحلقة المفرغة. وتصدع الوحدات الوطنية في الدول العربية المتعددة دينياً أو مذهبياً أو عنصرياً (العراق واليمن بعد انقسام السودان). ويعاني توسع النفوذ الإيراني من بوابة مذهبية، وتعثر مشاريع التكامل العربي على المستوى القومي، وحتى تعثر حركات «الربيع العربي» بعد إخراجها عن الطريق الذي انطلقت منه.

الواضح ان كل هذه العوامل سلبية. والواضح أيضاً انها في سلبيتها ترسم علامة استفهام كبيرة من القلق حول مستقبل المنطقة، وما يجري في العراق شاهد على ذلك.

يعرف الأوروبيون الثمن الباهظ الذي دفعوه حتى وصلوا الى «وستفاليا»، التي وضعت حداً للحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت من خلال تبني مبدأ الدولة الوطنية. غير ان العرب كغيرهم من شعوب العالم لا يتعلمون من دروس الآخرين. فالأوروبيون يتوجهون الآن من وستفاليا الى الاتحاد الأوروبي. فيما يبدو أن العرب لا يزالون يحثون الخطى بحثاً عن وستفاليا عربية!

 

السابق
إفطار صندوق الزكاة في حاصبيا ومرجعيون
التالي
نيمار قد يلعب نهائي المونديال