قراءة «المقاومة العراقية» للتحول في بلاد الرافدين

قد لا يختلف اثنان على اعتبار الحدث العراقي الذي تصدر المشهد السياسي مؤخراً هو كبير بكل المعايير. لكن الخلاف قائم حول تحديد أسبابه وهويته وخارطة قواه السياسية واستهدافاته الأساسية. وعلى قاعدة الاختلاف أدرجه البعض تحت تسمية العمل الإرهابي، وبعض آخر تحت مسمى “الانتفاضة السنية”، وبعض ثالث تحت مسمى الثورة الشعبية.
وإذا كانت مبررات البعض الأول انطلقت من مشهدية “داعش” وما يمثله، ومبررات البعض الثاني، من أن الحدث تجري وقائعه في مناطق تقطنها غالبية شعبية تدين بالإسلام على مذهب أهل السنة والجماعة. فإن البعض الثالث يعتبر هذا الحدث ثورة شعبية، لأنه جاء ليشكل قفزة نوعية في مسار عمل وطني تحرري بدأ بمقاومة الاحتلال وتحول إلى حراك شعبي سلمي تحت عناوين وطنية، وها هو اليوم يطرح برنامجاً سياسياً متكاملاً يحاكي حقوق ومطالب الشعب في العراق أياً كانت انتماءاته الإيمانية وأياً كانت مناطق تواجده.
وبعيداً عن الغوص في تشريح هذا التوصيف، فإنه من خلال المقاربة الشكلية، فإن “داعش” الذي يشار إليه بالتنظيم الإرهابي، هو جزء من المشهد السياسي وليس كله، وأنه لا يمكن التعميم استناداً إلى التخصيص، كما أن الذين يعتبرون ما حصل انتفاضة سنية، فاعتبارهم يندرج ضمن المقاربة الشكلية أيضاً، لأنهم يسقطون سمات المكان الذي شهد ولادة الحدث على الواقع السياسي برمته، علماً أن ما يطرحه المنتفضون، يلاقي مواقف سياسية من فئات وقوى أخرى تقر بأحقية الحقوق والمطالب المشروعة.
وأما الفريق الثالث، فينطلق في تقويمه للحدث من خلال المقاربة السياسية، استناداً إلى كون القوى التي انخرطت في تظهير الحدث الكبير، لم تسقط من حساباتها طبيعة المرحلة التي يمر بها العراق وهي مرحلة تحرر وطني توجب على القوى التي تحمل لواء التحرير الوطني أن تقدم نفسها عبر مشروع سياسي قادر على احتواء كل التناقضات الثانوية لمواجهة التناقض الأساسي الذي يهدد حرية البلاد ووحدتها.
كما أن هذه القوى وان استطاعت أن توظف عوامل التذمر والاستياء الشعبي من جراء سياسية الإقصاء التهميش والإلغاء والإفساد والارتهان، كمحفزات شعبية لمشروعها الوطني، فهذه نقطة تسجل لها وليس عليها، وبالتالي فإن هذه الحركة وان تموضعت قواها في مناطق معينة لما توفره من ظروف ومناخات ملاءمة للحراك، فهي إنما تجسد عبر مشروعها السياسي، الطموح الوطني الهادف لإعادة بناء عراق واحد موحد حرعربي ديموقراطي، ولهذا فإن هذا الحدث، لو لم تحصل وقائعه في تاريخه، لكانت حكماً ستقع في وقت لاحق، لسبب أساسي، هو أن المشروع السياسي الذي حكم سلوك المقاومة في مسيرة التحرير، ولم يتسن له الدخول السلس لإعادة صياغة الوضع السياسي استناداً إلى معطيات التحرير، هو أكبر من قدرة الحالة السياسية القائمة على احتوائه وبالتالي، فإن هذا المشروع بمضمونه السياسي، هو الذي فجر العملية السياسية التي أفرزها الاحتلال الأميركي بداية واستمرت مع الاحتلال الإيراني من الباطن. وهو ان كان يهدف إلى إسقاط العملية السياسية التي أفرزها الاحتلال، فإنه في الوقت نفسه موجه لمن اعتبر ان الفرصة مؤاتية له لابتلاع العراق، وهنا تكمن أهمية هذا الحدث للأسباب التالية:
السبب الأول: إنه كشف هزالة التركيب السلطوي الذي أفرزه الاحتلال، فضلاً عن افتقاره إلى أدنى معايير الوطنية، وهو الذي أدار البلاد بعقل ميليشاوي وحول العراق إلى دولة فاشلة.
السبب الثاني: ان الحدث العراقي الذي انطلقت أحداثه بزخم حيث توفرت بيئة شعبية ملائمة، أحدث ارتجاجاً قوياً في مساحة العراق كلها، ووفر مناخاً لكل الذين كانوا ينتقدون الأداء السلطوي مداورة، لأن يجاهروا بمواقفهم المعارضة والمعترضة، ولعل المواجهات التي حصلت في كربلاء والديوانية والبصرة والناصرية وذي قار مع مريدي وأنصار المرجع الديني العلامة محمود الحسني الصرخي، ودعوة مرجعيات سياسية ودينية لتشكيل حكومة وحدة وطنية إنما هي مؤشر واضح أن حركة الاستياء الشعبي، إنما هي حالة وطنية عامة، وان المطالبة بالتغيير السياسي ليست محصورة بمنطقة معينة ولا بمكون مجتمعي معين، وهذا ما يسقط تهمة إلصاق الإرهاب بالحدث، أو وسمه بسمة مذهبية خالصة.
السبب الثالث: ان البرنامج الواقعي الذي طرحته القوى التي قادت الحراك الشعبي الذي انطلق سلمياً، وتحول إلى ثورة بعد بلوغ السيل الزبى، وجه رسالة أمان واطمئنان لشعب العراق بكل فئاته وأطيافه، بأن الوحدة الوطنية هي الخيمة التي تظلل الجميع في ظل نظام سياسي يقوم على التعددية وتداول السلطة، حيث لا إقصاء فيه ولا اجتثاث ولا إبعاد وعلى قاعدة المساواة في المواطنة.
السبب الرابع: وهو على قدر كبير من الأهمية، وهو أن الحدث الأخير وفر ولأول مرة أرضية لإنجاز تسوية سياسية وطنية، وأهم ما في الأمر، أن قوى مشروع المقاومة الوطنية أثبتت أنها حالة وازنة في الواقع الشعبي والحياة السياسية وبالتالي لا يمكن لأحد أن يتجاوز دورها في إعادة صياغة أوضاع العراق السياسية عبر إعادة إنتاج نظام وطني جديد لا مكان فيه للوصاية والارتهان والالتحاق بمراكز التقرير الدولي والإقليمي.
السبب الخامس: وهو مرتبط بالرابع، بحيث لم يعد بإمكان أي مراقب سياسي ان يتجاهل تأثير ما حدث على دور النظام الإيراني في العراق، الذي كان ينام على حرير الفراش العراقي، فإذ به يستفيق في لحظة خاطفة ليرى “مشروعه الحوتي” قد أصيب بتجويف في بطنه، وأنه بعد الذي حصل في العراق بعد التاسع من حزيران، لم يعد باستطاعة النظام الإيراني أن يجلس كالطاووس على رأس طاولة ترتيب الوضع السياسي في العراق.
إن الدور الإيراني بعد الحدث العراقي هو اليوم ضمن دائرة إعادة التقويم، وسيدرك هذا النظام أن فائض القوة الذي تميز به هذا الدور والذي يعود بأسبابه إلى انعدام وضعف المصدات العربية، سيكون عبئاً عليه من الآن وصاعداً.
ولهذا فإن الذين يضعون ما حصل في العراق في خانة السلبيات، استناداً إلى خلفيات سياسية معينة، فرأينا ان نتائجه القريبة والمتوسطة الأجل ستفرضه كأهم عامل إيجابي في فرض التحجيم على الدور الإيراني وتأثيراته على الأمن القومي العربي انطلاقاً من العراق.
وكل آت قريب.

السابق
القرضاوي: إعلان ‘الخلافة’ في العراق باطل شرعاً
التالي
جنبلاط عاد من باريس بانطباعات قاتمة وتثير القلق