القابلية للاستبداديين

إستبدادان يتنافسان على أرضنا اليوم: الديني “الجهادي”، والعسكري الدنيوي؛ ولكنهما يلتقيان في العديد من الجيوش النظامية، وغير النظامية، مثل الميليشيات، أو الشبيحة أو البلطجية، ورايتهما المرفوعة تتراوح دينيتها بين اللون الأسود والأصفر والأخضر، أو القليل الإحمرار، أو مجرد “الله أكبر”… والجميع يجزم بأن اليد التي تقوده هي يد الله، ليس أقل من ذلك.

في البدء، أي عند إندلاع الثورات العربية، كانت العقول مفتونة بأولئك الشباب الذين يخوضون في العصر، فيتقنون أعمال الشبكة الإلكترونية، ويحيون شبكات التواصل الاجتماعي، ينتظمون عبرها، يعبئون أقرانهم، يدعون الى التظاهرات لإسقاط الطاغية؛ كأنهم دخلوا العصر من أعظم بواباته، بثورة سلمية عامرة، جرت وراءها كل الناس، كل الشعب، او غالبيته. وتكون النتيجة إن هؤلاء الشباب، الذين دخنا بمهاراتهم ورشاقتهم، هم الآن إما في السجن، المعلن والسري، أو في المنفي، الخارجي أو الداخلي، أو في الجنة.

لماذا؟ لماذا تكون نتيجة هذه الثورة ارتداداً إلى ما قبل الذي سبقها مباشرة؟ لماذا تهبط إلى ما دون الإستبداد “المدني”، وتتجه، بلهفة وسهولة، نحو الإستبدادين، الديني والعسكري، أو العسكري “المؤمن”، أو “المؤمن” العسكري؟ لماذا يكون مآل ثورة حرية، أو سقوط الطاغية بتدخل خارجي، فراغاً هائلا لا يسدّه إلا البطش المسلح أو الدين العقابي، والإثنان يستعجلان فرض سلطتهما الجديدة بسيف الحديد أو الشريعة الدينية، أو بالإثنين؟

الإجابات كثيرة على هذه التساؤلات. على رأسها إن قانون الثورات هو هكذا: موجة عاتية من التغيير، تليها موجة أعلى من الخوف من الفوضى الناجمة عن هذا التغيير، فموجة هي الأعلى، لا تريد غير الإستقرار بوسائل القهر الدنيوية والدينية. أو هذه هي، على الأقل، القاعدة العامة للثورات.

ولكن في ما يخصنا تحديداً، الآن، هناك سبب ثقافي يجعل شعوبنا، مهما حاولت من خلاص، هي الآن لقمة سائغة بين فكي الإستبدادين. لنا من حولنا أمثلة لا تحصى، كيف يكون حب الطاغية، “الكاريزماتيكي” دائماً وأبدا، حاملاً لديناميكية هائلة قادرة على تحويل ألمع العقول إلى الرداءة بعينها. فالطاغية ليس وحده مسؤولاً عن طغيانه؛ هناك محبوه وكهنته وشعبه، الذين يتقاسمون معه قانوناً للعدالة لا يعرف غير بند واحد هو الثأر: الثأر من العدو الكبير أو الصغير، المطلق او النسبي، الثأر كأداة حرب، كاستراتيجية حرب أهلية، كدينامو، هو الأقوى، وليس كمزاج مباغت غريزي، يمكن تجاوزه بعد حين، أو “تجاوزات عناصر غير منضبطة”، سوف تتم محاسبتها… وحدهما الإستبدادان، الديني والعسكري، قادران على إحياء الثأر بصفته إستراتيجية حرب.

ثم، سطحية مفاهيم ضرورية، مثل القانون والدولة والمؤسسة، وتكاسل الجمعيات الحقوق-انسانية عن الذهاب أبعد مما ترسمه لها أجندتها الخارجية، الأكْسل منها، حول المعاني المعاصرة للحرية؛ فتكون هذه المفاهيم مثل قشرة رقيقة في العقل، لا تحتاج الى أكثر من رصاصة واحدة لتطييرها بعيداً. لا يكفي، بل لا يعني شيئا، أن يكون المواطن الصالح الفلاني “ديموقراطيا” أو “إنسانيا” أو “تنويرياً”، لوحده، لتتطور ديموقراطيته أو ديموقراطية المقربين منه، الذين يتشكلون بعد ذلك مثل الشلة، أو العصابة، أو المستنقع المتميز بديموقراطيته… لا يكفي أن تنْوجد هذه الفئة من المواطنين ليتطور المجتمع الديموقراطي.

وهذه مستنقعات “ثقافية” لا تختلف، في تعريفها للقوة، عن مفهوم البلطجية والجهاديين والعسكر: القوة بمعنى الشراسة، المعنوية، أو المادية، الجاهلة لمعاني القوة الحرة، تلك التي لا تريد أن تقود أحداً ولا تقبل بأحد يقودها. وذاك النوع من القوة العنيفة، الشرسة، القاصدة التعبير عن عدوانيتها، سوف تجد أبهى تجلياتها في دين المجاهدين العقابي، وفي الهيكل العقلي للعسكر، نظامياً كان أم ميليشيات “شعبية”.

ضعف الدولة وحداثتها النسبية، يعني ان حدودها تستلهم الأوسع منها، الأقدم منها، العباسية، الأموية، الصحابية، المطعمة بجاهلية… لا شأن للقبائل والعشائر بها، وهي ذريعة محو الحدود الوطنية، إلا بقدر العجز عن بناء دولة، ومنافسة “الدويلات” لها. وهذا مناخ مهيأ لشتى الإستعادات العشوائية، لشتى المغامرات الدموية تحت راية الدين العقابي، والعسكر “المدني”، حتى ولو إختلفا وتصارعا، كما يحصل الآن في مصر. والتقاتل أمر حتمي، بين الاستبدادين، وداخلهما أيضاً…

فقط لشيء من التوضيح: عندما اندلعت الثورة الفرنسية، هي التي لم تعرف التحقق، وتدريجياً، إلا بعد قرن من اندلاعها، كان ألمع النجوم، المذكور اسمه بين الثوار وفي بلاطات الملوك والأباطرة، هو فيلسوف فرنسي عرفت كتاباته بنقدها للإستبدادين، الديني والسياسي. أما نجومنا نحن، في أوقات الشدة هذه، فتجمع بين الدين والإغراء، بين هيفاء وهبي، ومشايخ التحريض الديني.

السابق
انتفاضة أهالي بنت جبيل: عاصمة الإنتصار الإلهيّ عطشى
التالي
حسين الموسوي حذر من التعاطف مع الدواعش والمراهنة على اميركا