‘معركة كبرى’ يا أبا تمام!

لماذا تهدمُ «الثورة» تمثال «أبي تمام»؟ لماذا تنشر ثورة لعشائر ومقاومين إعلانات في شوارع الموصل حول النقاب المسموح لنساء المدينة بارتدائه؟ لماذا تقطع أيادي مخالفين؟ لماذا تحتل منازل مسيحيين؟ لماذا تعدم ثورة جنوداً مستسلمين، بكل هذه البشاعة؟ لماذا هناك أفغان وبريطانيون وتونسيون ونيجيريون وشيشان في مقدمة ثورة عراقية؟
ليس عليك أن تسأل. هذا النوع من الأسئلة يمثل تشكيكاً يستدعي تخوينك، رجمك، أو قتلك، نحن في «معركة مصيرية كبرى» ومَنْ ليس معنا فهو ضدنا، عليك أن تردد من دون توقف مثلنا تماماً: «ليس هناك داعش… إنها ثورة فقط».
في الجبهة الأخرى، حيث ترتفع الأهازيج الوطنية، ويشحذ الجميع أسلحتهم وألسنتهم، يمكن ببساطة ملاحظة «عصائب أهل الحق» و «كتائب أبو الفضل» بأزيائهم المميزة وعناوين مجموعاتهم، يسيطرون على الشارع ويشاركون في المعارك، ويرفعون فتوى السيد السيستاني مبرراً.
ولكن، ألم تتحدث الفتوى عن «دفاع كفائي»؟ ألم تشترط أن يكون التطوع في نطاق الأجهزة الأمنية حصراً؟ ومن ثم لماذا يحاسب صغار الضباط على هزيمة الموصل، ولا يحاسب قائدهم الأعلى؟ لماذا يتم تحويل القضية برمتها إلى استنفار طائفة ضد أخرى؟ لماذا الإصرار على هدم الدولة؟
ليس هذا وقت الأسئلة. أنت إما متآمر، وإما خائن، وإما متخاذل. وفي كل الأحوال أنت «داعشي»… نحن في معركة المصير وعليك أن تردد مثلنا تماماً: «ليس ثمة ميليشيات… إنه جيش عراقي فقط».
عندما تقرع الطبول، لن يكون في الإمكان إلا التماهي مع الجموع الغاضبة، التصفيق معها، وارتداء أزياء الكاكي والتلويح بالكلاشنيكوف. هذه عادة عراقية قديمة، فللحرب جاذبية لم تفقد بريقها يوماً، وفي الصدور أحقاد لم يسعَ أحدٌ إلى ترطيبها، وفي التاريخ الممتد حتى اللحظة موارد دائمة لتبرير القتل.
للسني مظالم عديدة، فهو يشعر بأنه مواطن مع وقف التنفيذ، وتهمة «داعش» مشرّعة في وجهه من أبسط جندي استُقدِم من الناصرية لحماية الموصل، إلى القائد العام للقوات المسلحة.
يمكن له خسارة حياته برصاصة، أو خسارة حريته خلف قضبان السجون، حيث التعذيب والاغتصاب، وانتهاك بقايا إنسانيته.
يرد مَنْ مرّ بمحنة السجن بغضب على مَنْ يطلب منه التسامح، أو من يلومه على الارتماء في أحضان «داعش»: «ماذا أفعل مع شرفي المنتهك؟»
للشيعي مظالم أخرى، فقد أخاه، زوجته، أو أطفاله، بتفجير انتحاري، يلتحق بالجيش ليفرغ غضبه على أي معتقل جديد ويحمله المسؤولية، وأحياناً يفجر آلامه بحق قرية، أو مدينة كاملة كالموصل.
لم يترك السنيُ الشيعيَ يجذر تجربة حكم العراق بعد قرون من تعرضه للقمع والتخوين والإذلال، ولم يسع الشيعي إلى إنهاء جنون الإذلال والقمع عندما كان بمقدوره ذلك.
ينقطع الحوار منذ زمن، ينقطع فلا تبقى منه سوى آثار مجاملات سياسية، وشعارات حول الوحدة الوطنية، ومدنيين، ليبراليين وعلمانيين، معزولين ومتهمين من الجانبين، ما زالوا يعتقدون بأن هناك مساحة أمل.
في نهاية 2012 كان السنّة العراقيون أنتجوا «لحظتهم»، تلك اللحظة الخطرة التي قرروا فيها أنهم «سنة» وعليهم الدفاع عن وجودهم سواء في ظل العراق أو حتى على أنقاضه.
فهم الجميع تلك اللحظة، فهمها مقتدى الصدر وعمار الحكيم ومسعود بارزاني وجلال طالباني، وفهمها مثقفون وكتاب، وفهمها المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، بل إن تنظيماً لا يعترف بحدود وطنية، ويمتهن القتل للسنة والشيعة معاً كـ»داعش»، فهم تلك اللحظة السنية وتعامل معها بذكاء، وانسل بجلد آخر للحديث عن استعداده للدفاع عن الطائفة التي لا تشبهه ولا تنتمي إليه ولا ينتمي إليها.
ولكن، وسط كل هذا الفهم لطبيعة التظاهرات السنية، والبيئة التي قادت إليها، والحلول التي يجب أن تطرح لتدارك أخطارها، بدا أن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي الوحيد الذي لم يفهم، فهو في أحسن الأحوال اعتبرها «تكتيكات ومؤامرات ضده» وفي أسوا الأحوال «مؤامرة خارجية».
ليس من المنطقي ألاّ يفهم المالكي، فافتراض أنه لم يكن يعلم أن اللحظة التي شيّد فيها السنّة خيمهم على أطراف صحراء الأنبار، ستقود بعد حين إلى تشييد حدود سنّية بقوة سلاحهم أو حتى سلاح «داعش». أمر في غاية الغرابة، تماماً كغرابة ألاّ يفهم رجل محنك في قيادة الأزمات كقاسم سليماني.
لن يحاسب المالكي لأنه لم يفهم، بل يحاسب ضباط لأن جنود الجيش العراقي هربوا من الموصل وتكريت والفلوجة وكركوك، فالأولوية هي لاستعادة هذه المدن، وحينها لكل حادث حديث. ولكن، ماذا اذا نجح الجيش في استعادة الموصل غداً؟ من يضمن انه لن يفقدها بعد غد؟ لا ضمانة، فالموصل نسخة في غاية الوضوح للمآلات السورية.
لن يجدي نفعاً البحث عن حلول الأمس لمعالجة أزمات اليوم.
«داعش» البربري الذي فَهِمَ، موجود اليوم في قلب الموصل التاريخية، يمتهنها، ويجذر قوانينه في أزقتها، يهدم تمثال أبي تمام وعثمان الموصلي، وينتهك أسرار أشور، ويحاول أن يلبسها رداء قرية من عصور ما قبل التاريخ.
«داعش» موجودٌ، لأن بغداد فشلت في إنقاذ الموصل، فشلت قبل 10 سنوات، وما زالت تفشل.

السابق
اللواء إبراهيم لـ ‘الحياة’: الإرهاب ينقل معركته إلى أرضنا ولن يستثني أحداً
التالي
الحريري لجنبلاط: “لن ألعب في الملعب الماروني ”