السقوط على الطريقة اللبنانية

ليس من يحمي ظهر لبنان في هذا السقوط المدوّي للنظام وللمعارضة في الداخل السوري والعراقي، وبدل أن يبحث السياسيون اللبنانيون عن طرق لحماية وطنهم ومجتمعهم يكتفون بانتظار نتائج قتال الأصوليتين السنّية والشيعية ويملأون الوقت الضائع بمزيد من تضييع الوقت، وبما يؤدي إلى شلل المؤسسات الدستورية.

لا ترى جماعة 8 آذار فرقاً بين نوري المالكي الأصولي والدولة الوطنية العراقية، ولا تفرق جماعة 14 آذار بين الاعتراض المدني السنّي على تسلط المالكي واجتياح «داعش» الأرض والبشر والدولة. التخندق السياسي اللبناني مغلف بسجالات حول تفسير القوانين وكيفية تطبيقها، لكنه في الحقيقة استقطاب ينتظر كل طرف فيه الهيمنة على الطرف الآخر.

ومن يتابع تعليقات السياسيين اللبنانيين على الانهيارات السورية والعراقية لا يتمالك نفسه من الضحك للمستوى الكاريكاتوري لهذه التعليقات والترجمة «البلدية» للحدث الإقليمي، وربما يأسف حين يتذكر النهضويين اللبنانيين الذين فهموا حراك الداخل العربي فضلاً عن فهمهم العميق هشاشة وطنهم واعتماده على إقليم متصالح ومتضامن حول مشتركاته القومية.

سقط نوري المالكي في الاستفتاء العراقي غير المعلن حين عجز عن تحقيق أدنى مستويات التنمية لبلاده المنكوبة مغرقاً إياها بموازنات ضخمة وفساد يمتصها حتى آخر دينار. وسقط «داعش» وحلفاؤه حين هرب أكثر من نصف سكان الموصل لئلا يصبحوا عبيداً لمن يعتبر الأرض ومن عليها مجرد غنيمة. وسقط النظام السوري حين لم يتصالح مبكراً مع المجتمع واعتقد في ما يشبه المكابرة انه قادر على الاستمرار في مصادرة حريات المواطنين والتعامل معهم بأبوّة قاسية لا يرضاها الأبناء الراشدون، وسقطت المعارضة حين استخدمت الأصوليات المسلحة أداةً لإسقاط حكم الأسد فصارت أسيرة لها وفي أحيان كثيرة ضحية.

 ويسقط السياسيون اللبنانيون على طريقتهم، إذ يمارسون العمل السياسي بعقلية وأسلوب عائلات مافيوية أو ميليشيات منفلتة من أيدي مؤسسيها تتخذ من النفوذ وحماية المصالح المالية هدفاً عملياً ومستمراً. لقد أقفلوا المؤسسات السياسية كلها: لا اتفاق على آلية عمل مجلس الوزراء في غياب رئيس الجمهورية، ولا على آلية التوقيع على المراسيم. أما مطالب المعلمين والموظفين والعسكريين فيؤجل إقرارها منذ سنوات، ولن تجد من يلبيها بدعوى هشاشة الموازنة العامة وخوفاً من انهيار اقتصادي.

 السياسيون اللبنانيون يحرسون الفراغ وينتظرون الانفراج من الإقليم والعالم، أما الشعب فينشط على رغم الأزمات منتجاً ومبتكراً ما يعينه على العيش، معتبراً الدولة وسياسييها غير موجودين. والحق أن الناشط السياسي الوحيد هو وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي التقط خيطاً مشتركاً بين 8 و14 آذار ليعمل على تمكينه من أجل حد أدنى من الأمن في بلد يتحمل عبء تراجع الموارد ووطأة ما يقارب مليوناً ونصف المليون لاجئ سوري. وسوف يكتشف حراس الفراغ أن الإقليم والعالم سيسخران منهم ويلومانهم حتى التقريع لأنهم عجزوا عن حد أدنى من القرار الوطني المستقل بانتخاب رئيس للجمهورية يقود مرحلة انتقالية في لبنان، تحفظه من الصدمات الانتقالية في محيطه.

  لبنان يسقط ببطء ليترك مجالاً لمعاودة النهوض، أما سورية والعراق فيزخران بإرادة السقوط حتى الانتحار، نتيجة تراث من الاستبداد وضحالة في الثقافة السياسية يسمحان بحضور قوي لأصوليات بدائية تؤسس لمجتمع وحشي يتلصص على العالم معجباً به ولاعناً إياه في الوقت نفسه، مجتمع يشكل خطراً على العالم إذ لا تعرف متى يهاجم بعمليات انتحارية ليزيد من حجم غنائمه.

 وما يحدث هو علامة انهيار في حضارتنا، هذا العود على بدء، والتطور الدائري الذي ينتهي دائماً في نقطة البدء.

السابق
الخطف بين الضريبة والغنيمة
التالي
أنوف الجِمال تفرز الـ’كورونا’