بدعة الديمقراطية التوافقية

كثر الإبداع في لبنان لدرجة المياعة وتعاظم لدرجة الدمار الذاتي. كلما تطرقنا لمعالجة مشكلة وطنية نستخلص جبناً أن الحل الجذري لها لا يتلاءم مع “خصائص” التركيبة اللبنانية. وتباعاً نلجأ لخيارين أولهما إيداع المشكلة في الأدراج لعل غيرنا يحلها في المستقبل؛ أو نكحل الحل الجذري ببدع تخفيفية، فيصدر الحل أعرجَ.

عظمة اللبناني في الإبداع والمياعة لم تنحصر في الشؤون الحياتية مثل موضوع السير أو الإيجارات أو الرواتب. لكنه تمادى وأبدع أيضاً في إعادة صياغة أسس الديمقراطية. أدخل اللبناني على الديمقراطية بنوداً وشعارات واستثناءات بحيث أصبحت نظاماً عجيباً لا يطبق إلاّ في لبنان، بلد الفلاسفة، بلد المؤرخين، بلد المشرعين! نحن ببساطة بضعة ملايين وسمحنا لنفسنا بإعادة صياغة ما يطبقه مئات الملايين ومنذ حوالى مئة سنة. عجباً عظمة اللبناني عندما يبدع.

الديمقراطية في بساطتها تعتمد ضمناً على ثلاثة عناصر أساسية :
1 –    الشعب هو قاعدة الإختيار
2 –    التصويت هو سيف القرار
3 –    التداول في السلطة إلزامي

لنرَ كيف قرأ وفسّر اللبناني هذه الأسس. في موضوع الشعب، استبدل المواطن بالنائب. هكذا يصبح التحكم بتصويت حوالى مئة نائب أسهل بكثير من التحكم بتصويت مليونيّ منتخب.

في النقطة الثانية، وهي جوهر هذا المقال، تمَّ خصيّ سلطة التصويت بعدما أدخل عليها عبارة توافقية. وبذلك أصبحنا مجتمعاً مدنياً مخدّراً يدور حول نفسه من الآن حتى اشعار آخر. مفروض عند تصويت الأكثرية على رأي معيّن أن تكون نتيجة التصويت دكتاتورية على الفريق الخاسر. وتباعاً تدور عجلة العمل وبعد الامتحان يكرّم الفريق الرابح أم يهان. لقد خلق الإنسان بأشكال متعددة وبأفكار متنوعة. ولذلك من المستحيل أن نتوافق طوعاً على خيار أو على خريطة طريق. وهذا أمر طبيعي جداً وزمني الواقع. من هنا كان مبدأ التصويت الحضاري هو الحل الأمثل للفصل عند تعددية الأفكار وتضارب النظريات. والحياة دولاب، فالخاسر اليوم في التصويت هو الرابح غداً في موضوع آخر، أو في حال أخفق الرابح سابقاً في التصويت. وهكذا تحرك أيضاً قاعدة الثواب والعقاب ويصبح المنتخب سيد القرار والمسيرة. أما طالما تمسّكنا بصفة الديمقراطية “التوافقية” فعلى لبنان السلام. وعلى ذلك وجب تعديل مصطلح “توافقية” بكلمة “شللية”. لأن كلمة “توافقية” وكلمة ديمقراطية نقيضان لا يتواجدان في جملة واحدة.

في كل مؤسسات الأرض هناك آمر وقاطع. في المنزل هناك الأب. في الشركات هناك رئيس مجلس إدارتها. في الحقل العام هناك التصويت. ومع التوصيت “التوافقي” المعتمد لدينا أضحى لبنان كعائلة من دون أب أو شركة من دون رئيس مجلس إدارة.

أمّا في موضوع تداول السلطة فالوضع “فالج لا تعالج”. لأنه طالما تقمقم المنتخب اللبناني بنفس الغرائز المعتمدة في الانتخاب فلن يكون تداول السلطة قيد التطبيق في بلادنا. ولقد تبيّن ان كل انسان يحتفظ بمركز سلطوي لمدة تتعدى 8 – 10 سنوات يتحوَّل لا شعورياً إلى سيرة الديكتاتوريين أو عكس ذلك إلى سيرة اللامبالين.

أيها اللبنانيون أيقنوا أن حالكم سيئة جداً. وما فعلناه في السنوات الأربعين الماضية سيئ جداً. أقرّوا بأخطائكم واعتمدوا مغالطة النفس ومن ثمَّ التصحيح. لبنان 1960 كان أحسن حالاً من لبنان 1970. ولبنان 1970 كان أفضل حالاً من 1980. ولبنان 1980 كان أفضل حالاً من لبنان 1990. ولبنان 1990 كان أفضل حالاً من لبنان 2000. ولبنان 2000 كان أفضل حالاً من لبنان 2010. الجسم الذي مرض أسبوعاً يتعافى كلياً خلال شهر. والجسم الذي مرض شهراً يتعافى كلياً خلال سنة. والجسم الذي مرض سنوات، هل يتعافى؟.

اليوم أحسن من غداً. فلنبدأ بالتصحيح الجذري والشجاع لكل أخفاقاتنا.

السابق
مزارعو الحشيشة: التشريع وإلاّ البدائل
التالي
حتى انت يا مارسيل خليفة