مهمة جعجع التاريخية: قطع الطريق على عون

 

ما يفعله رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في الاستحقاق الرئاسي، بإسناد ودعم من البطريركية المارونية، ليس ابن ساعته. هو الوكيل المعتمد منذ أكثر من ربع قرن لضرب أسس الشراكة ودك وحدة المجتمع وتعبيد الطريق أمام هيمنة فريق مذهبي على حقوق فريق آخر.

قلب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الصغير لا يحتمل شغور كرسي الرئاسة الأولى بضعة أشهر. يفضّل أن يُنتخب دميانوس قطار رئيساً لست سنوات على بقاء الأوضاع على ما هي عليه ستة أشهر. رئيس ـــ ولو كان الوزير السابق زياد بارود ـــ أفضل من لا رئيس في انتظار أن يذعن تيار المستقبل لحق المسيحيين في انتخاب رئيس قوي. قبل مدة، احتجّت البطريركية المارونية على استعلاء معراب على ابنها المدلل، فحدّد جعجع موعداً عاجلاً لبارود. أربع ساعات ونصف الساعة كانت مدة اللقاء، ذهل قائد القوات طوالها بتهذيب الوزير السابق ولياقته وأفكاره المميزة عن أحزمة الأمان وغيرها. بات يمكن بارود، الآن، أن يتغدى مع مسؤول في حزب الله ويتعشى مع مستشار جعجع ملحم رياشي. يريد جعجع أن يتوسط دميانوس قطار (أو بارود) رئيسي المجلس النيابي والحكومة. بري يمثل الطائفة الشيعية، والحريري يمثل الطائفة السنية، وقطّار أو بارود يمثل الطائفة المسيحية.

هناك من يريد تكريس الأفكار النمطية التي تستهزئ بالمسيحيين على أنهم «كلاس» ويرطنون بالفرنسية ويستحمون ثلاث مرات في اليوم. لبري كتلته النيابية في حال اضطر إلى خبط يده على طاولة ما، وله حركة أمل والمياومون وحزمة مؤيدين في كل زنقة، وللحريري تشكيلة مماثلة… وللرئيس الدستور. إذاً، أُخرج سمير جعجع من السجن وعاد ميشال عون من المنفى ليُنتخب روجيه ديب رئيساً للجمهورية! رئيس يتلاعب به الرئيس بري، ويلعب به الرئيس فؤاد السنيورة أو غيره، أفضل من «لا رئيس ريثما يخضع تيار المستقبل لأسس الشراكة الحقيقية وقواعدها»، يقول جعجع.

في التيار الوطني الحر، يحاولون وضع أنفسهم محل مختلف المعنيين بالاستحقاق الرئاسي لتوقّع ما يريدونه. يريد الأميركيون رئيساً يضمن الاستقرار عبر تحكيمه العادل أولاً، ويحول دون تفشّي نفوذ حزب الله أكثر فأكثر ثانياً. حزب الله يريد رئيساً لا يضيّع وقته باستفزازات ابتزازية صغيرة تتعلق بعمل المقاومة. إيران وسوريا تريدان من يريده حزب الله. الرئيس سعد الحريري يريد من تريده السعودية، والسعودية لا تعرف ماذا تريد. أما جعجع فلا يريد سوى قطع الطريق على عون، كيفما كان وأياً كانت النتائج. ورغم هذا، تقول القوات اللبنانية بكل ثقة بالنفس إن معركة عون ليست مبدئية، بل شخصية. قوى 8 آذار التي تقول إن الاستحقاق الرئاسي فرصة لتصحيح بعض الخلل في التمثيل السياسي ـــ الطائفي المتواصل منذ الطائف، تشخصن المعركة عبر ربطها تصحيح التمثيل بانتخاب عون رئيساً. أما القوات التي تنقلب على كل المبادئ والخطابات والندوات عن تصحيح التمثيل لتضمن عدم انتخاب عون رئيساً، فلا تخوض معركة شخصية أبداً!

أُفرج عن جعجع وعاد عون من المنفى ليُنتخب ديب رئيساً؟
ليس جعجع وحيداً في كل ما سبق. معه كل من اجتهدوا، في العقدين الماضيين، لصرف كل أرصدة آبائهم، من دوري شمعون وسمير فرنجية الى ميشال معوض ونديم الجميّل وغيرهم ممن يقفون على أبواب المختارة أو العمارة أو قريطم لتسوّل مقعد نيابي. ومعه، أيضاً، البطريركية المارونية. كان أحد وزراء 8 آذار السابقين يتسلى قبل بضعة أسابيع بتسويق فكرة ترشح البطريرك بشارة الراعي إلى رئاسة الجمهورية، ففوجئ به يتعامل مع نكتته بجدية مطلقة. ولم تلبث القوات أن تلقّفت المزحة واستخدمتها في سياق إحراج عون أملاً بإخراجه. لا تحبّذ البطريركية تسريب مجموعة أسماء من هنا وأخرى من هناك لتحترق أيضاً وأيضاً، فلا يبقى أحد غير الراعي يعوّل عليه للوقوف في وجه عون. ينشغل البطريرك منذ بضعة أشهر عن الهموم الاقتصادية والأمنية والديموغرافية والاجتماعية لأبناء رعيته من حلب إلى فلسطين المحتلة، مروراً بحمص ووادي النصارى والقبيات وزغرتا والبترون و(…) وجزين، بتطلعات عملاء أنطوان لحد في الكيان الصهيوني وأحلام المتمولين المقيمين منذ ثلاث سنوات في الصرح، يصرح بشيء حين يصعد في طائرة، وبنقيضه حين تهبط به الطائرة. وها هو يجتهد لمحاصرة عون وإحراجه، محاولاً عبثاً ـــ كما حاول عبثاً سلفه ـــ سحب البساط من تحته.

في مقابلة على شاشة «أن بي أن»، سأل المسؤول الإعلامي في تيار المردة المحامي سليمان فرنجية نفسه: لماذا لا يعارض تيار المستقبل شغل الرئيس نبيه بري رئاسة المجلس النيابي وهو أمّ جميع السلطات، فيما يعارض شغل الزعيم المسيحيّ الأول لرئاسة الجمهورية؟ قبل أن يجيب نفسه: لوجود عقدة طائفية لا سياسية، تتمثل في رفض تيار المستقبل الاعتراف بحق المسيحيين في شراكة حقيقية في السلطة. يعترف تيار المستقبل بحق الشيعة في الشراكة، لكن ليس المسيحيين. الخلاف السياسي لم يحل دون انتخاب نواب المستقبل، مراراً وتكراراً، رئيس حركة أمل رئيساً للمجلس النيابي، فيما يتذرع المستقبليون بالخلاف السياسي لعدم انتخاب رئيس التيار الوطني الحر رئيساً للجمهورية، مع العلم بأن نفوذ رئيس المجلس أهم وأخطر، بالنسبة إلى المستقبل، من نفوذ رئيس الجمهورية. يقف فرنجية عند هذا الحد. لا يقول إن مفتي الجمهورية والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لا يضعان، على غرار البطريركية المارونية، العصي في دواليب المرجعيتين السنية والشيعية السياسيتين، ولا يشير إلى معرفة النائب طلال أرسلان والوزير السابق فيصل كرامي وأحمد الأسعد أحجامهم مقارنة بأحجام القوى الأخرى في طوائفهم، عكس الأحزاب والشخصيات المسيحية.

لا يحتاج الرأي العام إلى من يدله على كل هذه التفاصيل، فهو يعرفها جيداً. افتحوا صناديق الاقتراع، يقول أحد العونيين، وسيقول الناخبون إن كانوا يريدون بارود أو قطار أو عون رئيساً للجمهورية. من حاسبوا المتآمرين على تصحيح التمثيل عبر الإبقاء على قانون غازي كنعان عام 2005، سيحاسبون المتآمرين على تصحيح التمثيل عبر الإبقاء على الرئيس الهش عام 2014. هذا لا يحتمل الشك.

من هدم الأسس الضرورية لمعارضة التنازلات قبيل الطائف، ومن قبل بنتائج الانتخابات النيابية عام 1992 رغم المقاطعة الاستثنائية لها، ومن قايض حريته الشخصية بالاتفاق الرباعي وقانون غازي كنعان الانتخابي اللذين سجنا جماعته عشر سنوات أخرى، هم من عطّلوا الاقتراح الأرثوذكسي بما يتضمنه من فرص لتصحيح الخلل في التمثيل الطائفي النيابي، وهم من شكّكوا في نيات عون كلما حاول تعزيز التمثيل المسيحي حكومياً، وهم من يتصدون لعون اليوم.

هناك من ارتضى لنفسه هذا الدور، وهو لا يخجل بنفسه أبداً. فعل الرئيس نجيب ميقاتي أقل من واحد في المئة مما يفعله هو وعانى ما عاناه من شعور بالذنب، تاركاً الحياء يكبّله. أما هو فلا يبالي أبداً؛ مرت عليه «محطات» أكثر إحراجاً من هذه بكثير.

 

السابق
بالفيديو: وزير الخارجية الفرنسي ينام خلال اجتماع في الجزائر
التالي
’داعش’ يطالب مقاتليه بالتوجه نحو بغداد والاتجاه الى السيطرة عليها