السيسي رئيسا: شروط النجاح، أو الفشل؟

– I –

لا أحد على الأرجح داخل مصر وخارجها يدرك فداحة المسؤوليات الملقاة على عاتق الرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي، أكثر من عبد الفتاح السيسي نفسه.
وهذه الواقعة كانت واضحة في خطاب قسم اليمين الذي، وعلى رغم أنه جاء بمثابة برنامج عمل كاملاً وشاملاً لكل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسات الخارجية، إلا أنه تضمن أيضاَ غير إشارة حول إدراك السيسي بأنه يخوض بالفعل مغامرة كبرى (محلية وخارجية) ليس في وسع أحد التنبؤ من الآن بمآلها.
أهم هذه الإشارات:” لم أسع يوماً وراء منصب سياسي، وأنا استخرت الله متوكلاً عليه (أي بعد تردد كبير حيال الترشح) وحزمت أمري منحازاً إلى إرادة الشعب”؛ و”اتفقنا (الرئيس والشعب) أن نبقى واضحين وعلى تواصل مستمر للاطلاع على حقيقة الأوضاع”(أي على حقيقة الأزمات الكبرى التي تغشى مصر)؛ و”أعينوني بقوة لبناء وطننا الذي نحلم به، واعلموا أن سفينة الوطن واحدة، أن نجت نجونا جميعا”.(أي: إما العمل المشترك للانقاذ، أو الغرق المشترك للجميع).
والآن، وقد أصبح المشير السيسي رئيساً مدنياً رسمياً، سيكون وجهاً لوجه أمام جملة قضايا وأولويات مدوّخة في مدى تناقضاتها وصعوباتها، إلى درجة لن يحسده فيها إنسان قط على تسنمه عرش مصر:
– فهو يريد أن يبني اقتصاداً منتجاً يعيد الاعتبار إلى دور الانتاج في الصناعة والزراعة والتكنولوجيا لأنها الطريقة الوحيدة لتوفير فرص العمل لنحو مليون شاب مصري ينضمون سنوياً إلى سوق العمل. هذا في حين أن الهيكلية الاقتصادية والطبقية التي ترسخت طيلة نيف و40 عاماً، تستند إلى طبقة رجال أعمال جدد راكموا الثروات الطائلة من قطاع الخدمات على أنواعها إلى المضاربات العقارية والمالية. وخطورة هذه الطبقة أنها تحظى بدعم قوى العولمة النيوليبرالية وإسرائيل.
وهو يسعى إلى “شن حرب لاهوادة فيها على الفساد في الدولة”، على حد تعبيره. لكنه سيكون مضطراً في الوقت نفسه ألا يستعدي زهاء 6 ملايين موظف رسمي لعبوا دوراً كبيراً في توفير جزء وافر من قاعدته الشعبية والانتخابية، ويتوزعون على “إقطاعات” في الدولة تتنازع في ما بينها مغانم سلطة الفساد.
– وسيواجه الرئيس السيسي معضلة الترابط الوثيق بين الاستقرار الأمني والسياسي وبين النمو والتنمية الاقتصادي، خاصة في قطاع الخدمات الذي يتأثر بشدة بأي توترات أمنية. وهذا قد يخلق اضطراباً في الأولويات يسفر عن إعاقة كل مشاريع التطوير والنهوض. كما أنه قد يستنفر ضده، في حال تعثر برامج النهوض، ما أسماه زبغنيو بريجنسكي “يقظة الشارع السياسي” في العالم. وهو أمر أشار إليه الرئيس المصري نفسه حين قال مخاطباً المصريين:” لقد برهنتم أن قدرتكم لن تتوقف عن إسقاط أنظمة مستبدة أو فاشلة”.
– ثم أن الرئيس السيسي يجب أن يجد حلاً لمشكلة جماعة الإخوان المسلمين كمدخل لابد منه لتحقيق استقرار سياسي بعيد المدى، وللتفرغ لتصفية موجة التطرف الأصولي المنتشرة في سيناء على نطاق واسع، سواء جاء هذا الحل بالترهيب أو الترغيب أو بالعمل على تقسيم تنظيم الجماعة بين معتدلين ومتطرفين.
– وسيكون على الرئيس الجديد أن يقنع الإدارة الأميركية بأن مشروعه، وليس مشروع الإسلام السياسي، هو القادر على مقارعة “الإرهاب الإسلامي”. هذا في وقت يبدو فيه أن واشنطن لاتزال تعتقد أن للإخوان دوراً هاماً في هذا المجال على رغم إطاحتهم الطائشة لفرصة الحكم التي منحتهم إياها.
– وأخيرا، ستيعيَّن على الرئيس الجديد أن يمارس لعبة توازن دقيقة وصعبة في المجالين الدولي والإقليمي. إذ سيكون عليه مواصلة التقارب مع روسيا (والصين) من دون إثارة مخاوف الولايات المتحدة أو ريبتها. وهذا بات يبدو الآن أمراً صعباً، بعد أن أصبح الصدام واضحاً في أوكرانيا بين روسيا مصممة على إعادة بناء الاتحاد السوفييتي السابق (في صيغة الاتحاد الأوراسي) وبين أميركا ترفض بقوة عودة نفوذ روسيا إلى سابق عهده من خلال نسفها تريبات مابعد الحرب الباردة.
والأمر نفسه سينطبق على المجال الإقليمي، حيث سيكون أيضاً على السيسي، في ضوء التحالف الكبير الذي نشأ مؤخراً بينه وبين دول الخليج العربية، لعب دور الموازن للقوة الإيرانية في المنطقة تحت شعار حماية الأمن القومي العربي، لكن من دون الوصول إلى نقطة الصدام مع دولة الخميني وقورش كما فعل صدام حسين. ولعل موقف السيسي من الصراع في سورية ولبنان سيكشف عما قريب عن طبيعة لعبة التوازن هذه ومداها.
– II –
هذه، إذاً، بعض العقبات الكأداء التي ستعترض سبيل ثنائية الاستقرار – النهضة التي يسعى السيسي إلى تحقيقها، والتي كانت أصلاً هي مبرر صعود شعبيته الكاسحة. فهل سيكون في مقدوره مجابهتها؟
في خطاب القسم، نستطيع (كما أشرنا أعلاه) تلمُّس خطط عمل شاملة قد تساعد السيسي في  ركوب ظهر النمر الجامح.
فهو اعترف بوجود أزمات اقتصادية واجتماعية أمنية طاحنة، وبتفاقم الاستقطاب الديني الحاد بين المسلمين والمسيحيين وبين أبناء الدين الواحد من خلال دعاوى التكفير، لكنه وعد بإعادة الهيبة إلى الدولة المصرية وتوفير الأمن كأولوية قصوى وكمدخل لـ”تنمية شاملة”.
وهو قال أن مصر ستكون مقبلة على مرحلة التنمية الصناعية والزراعة “اللذين هما جناحا التنمية الاقتصادية وعصب الاقتصاد والسبيل إلى خلق فرص العمل وتشغيل الشباب”، كما قال. وفي الوقت نفسه العمل على محورين: تدشين المشاريع المشروعات الوطنية العملاقة (تنمية قناة السويس والطاقتين النووية والشمسية) والمشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تخدم المناطق المهملة والأكثر فقرا.
التنمية الانتاجية هذه يجب أن تترافق برأيه مع تنمية اجتماعية – ثقافية، تتضمن من ضمن ماتتضمن “تجديد الخطاب الديني” وبث الروح في القيم الأخلاقية المصرية والإسلامية.
وكان ملفتاً في هذه الإطار أن يشدد السيسي، في سياق حديثه عن تطوير مؤسسات الدولة المصرية، على أن “مواجهة الفساد بكل أشكاله ستكون شاملة، ولن يكون هناك ليس فقط لاتهاون مع الفاسدين بل أيضاً لارحمة مع أي من يثبت تورطه في أي قضية فساد مهما كان حجمها”.
كما كان ملفتاً أن يحدد السيسي الهوية المصرية كالتالي:” مصر فرعونية ميلاداً وحضارة، وعربية لغة وثقافة، وإفريقية جذوراً ووجودا، ومتوسطية طابعاً وروحا”. وهذا، كما هو واضح، تحديد يقفز فوق كل تجاذبات الهوية بين الأطراف الإسلامية والعلمانية والدينية المتنازعة على طبيعة هوية مصر. الوطنية المصرية هنا هي الأساس، ومفهوم المواطنة “سيكون هو المبدأ الحاكم، فلا فرق بين مواطن وآخر في الحقوق والواجبات ولا في قناعاته السياسية طالما أنها سلمية”.
الإشارات في الخطاب حول مشكلة الإخوان كانت جلية. فالرئيس المصري رفع شعار “التصالح والتسامح من أجل الوطن بين كل أبناء الوطن، باستثناء من أتخذوا من العنف منهجا”.
وهذا يعني أن الحوار لاحقاً مع الأجنحة التي تبنذ العنف في الجماعة أمر وارد، على رغم أن ملامح مثل هذه الأجنحة لم تظهر بعد بسبب التشنجات الراهنة في صفوف الإخوان الذين يبدو أنهم لما يستفيقوا بعد من صدمة الخروج المفاجيء من جنَة الحكم.
أما في مجال السياسة الخارجية، فقد كان السيسي جريئاً للغاية حين أعلن بكلمات مجلجلة أن “عهد تبعية مصر في العلاقات الخارجية قد ولى”، وأن هذه العلاقات ستُحدد من الآن فصاعدا طبقاً لمدى استعداد الأصدقاء للتعاون وتحقيق مصالح الشعب المصري”.
-III
كما هو واضح، مشروع السيسي متكامل وطموح. لكن ما فرص نجاحه أو فشله؟
لا ريب أن الرئيس الجديد يمتلك نقاط قوة واضحة.
 فهو يأتي إلى السلطة على صهوة موجة وطنية مصرية جامحة تتمحور حول مؤسسة الدولة المصرية (مهما كان شكلها) أملاها عاملان: الأول، تجربة الإخوان الفاشلة في الحكم على صعد الهوية الوطنية الجامعة، والتنمية الاقتصادية، والإجماع السياسي الضروري للغاية في المراحل الانتقالية التأسيسية في حياة الأمم. والثاني تعب المواطنين المصريين من ثورات متصلة خلال ثلاث سنوات اضطرب فيها حبل الأمن وتوقفت خلالها الدورة الاقتصادية.
السيسي يمتلك أيضاً ورقة الدعم الكامل الذي تبديه كل مؤسسات الدولة المصرية تقريباً، من الجيش (طبعاً) وأجهزة الأمن إلى المحكمة الدستورية العليا والقضاء، مروراً بالسلطتين التنفيذية والإدارية. وهذا ما فشل الرئيس السابق مرسي في تحقيقه.
ثم أنه حائز على دعم مالي خليجي يبدو بلاحدود. الأمر الذي سيعطيه فرصة تنفس ثمينة لأعادة ترتيب البيت المصري الداخلي، بتكلفة اجتماعية وسياسية أقل.
بيد أن نقاط الضعف لاتقل أهمية عن نقاط القوة كما أشرنا أعلاه، لكن أهمها وأولها وأبرزها هو عامل الوقت الذي سيكون السيف الحاسم والحد القاطع بين النجاح والفشل في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ومن ثم السياسية. لابل يمكن القول أن “فترة السماح” الداخلي (يقظة الشارع السياسي) والخارجي (أساساً العلاقة مع الولايات المتحدة) قد لاتتجاوز السنتين أو حتى سنة واحدة، كي يبان الخيط الأبيض من الأسود في مشروع السيسي، الذي يجب أن يتضمن أيضاً عاجلاً أو عاجلاً استئناف مسيرة المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية التي بدأت مع ثورة يناير قبل أن تتوقف.
مسألة الوقت هذه تتطلب في الدرجة الأولى أن يثبت الرئيس الجديد أنه “رجل دولة” (كمحمد على باشا وجمال عبد الناصر مثلاً) لا رجل رئاسة وسياسة كما كان الرئيسان السابقان مرسي ومبارك. فهذا، إضافة إلى عامل الوقت الحاسم، هو ماتحتاجه الآن مهام عملية الانقاذ الضخمة والتاريخية والصعبة في مصر.

 

السابق
اشقاء هاشم السلمان: لجلب من خطط وامر ونفذ الجريمة
التالي
غريب: الشهادة مقابل السلسلة