انتخابات بلا ديموقراطية و’ديموقراطية’ بلا انتخابات!

لدى العرب ما يدهش العالم!
لدينا بلاد تجري فيها «انتخابات»، بلا ديموقراطية، وبلاد بلا انتخابات وبلا ديموقراطية، و… لبنان، معجزة البلدان، لديه «ديموقراطية»، بلا انتخابات.
بالفعل، عالم عربي، يدهش العالم، شيء من المستحيلات، يعصى على التغيُّر، وان فعل، فإلى الوراء وإلى المزيد من التخلف… ولا نتجنى على أحد. الوقائع بليغة وتفسر هذا الإعجاز العربي، الخارج عن سياق المسارات في أكثرية الدول: أميركا اللاتينية تتقدم باتجاه المزيد من الديموقراطية والحرية وتداول السلطة واستقلال القضاء ومراقبة الشعب لأداء الحكومات.. أفريقيا التي أصيبت بلعنة العسكريتاريا، بعد مقاومة الاحتلال وحروب الاستقلال، نهضت إلى مسيرتها، وهي تتقدم في بيئة صعبة المراس، لتكون أكثر ديموقراطية وأقل عنفاً وحروباً.. أوروبا الشرقية، انتقلت بعد سقوط الديكتاتوريات بسرعة إلى ممارسة الديموقراطية والمزيد من المشاركة والمساءلة.. دول جنوب شرق آسيا لم تشذ عن القاعدة… في كل مكان، «ربيع ديموقراطي»، يميني أو يساري أو وسطي أو متطرف.. إلا في هذا «الربع العربي الخالي».
الربيع العربي الذي اندلع منذ ثلاثة أعوام ونصف العام، انتهى إلى عودة العسكر، وإلى تفتيت الدول وتشليع شعوبها وإدخالها في جهنم الحروب الأهلية، القبلية، العشائرية، المذهبية والتكفيرية. الربيع العربي النقي، لوَّثه الإسلاميون واغتصبه العسكر واشترته الرجعية العربية… الربيع العربي بريء مما حصل.
هاكم أدلة تثبت ما جاء أعلاه:

لبنان، يصيح زعماؤه وكتابه ومفكروه وميثاقيوه وطائفيوه، بأنه بلد ديموقراطي، ويمتلك مؤسسات الدولة الحديثة: دستوراً، وقوانين، وسلطةً «منتخبة» وميثاقاً وطنياً تعاقدياً، ومع ذلك، فهو لا ينتخب، وإن فعل، فبوصاية وتدخل وتمويل من الخارج.

هو حالياً عاجز عن إجراء انتخابات رئاسية، مستنكف عن إقرار قانون انتخابي جديد لإجراء انتخابات فات أوانها. هو مقصر في تأليف الحكومات، فلقد بات معتاداً على الانتظار لما يقارب السنة، كيف تتوافر الظروف الإقليمية التي تسمح، بإرادة أميركية راهناً، لجمع ما كان غير قابل للجمع. (حكومة تمام سلام، دليل).
قبل هذا الزمن، كان لبنان يعوِّل في انتخاب رؤسائه على «الوصي» الخارجي. يتحوَّل مجلس النواب إلى مجلس إبرام الاتفاق. هو لا يختار ولا ينتخب، بل يسأل السفارات المعنية والقناصل المباشرة ومراكز النفوذ الإقليمية والدولية؛ «من تريدون، كي ننتخب لكم؟» هكذا، على المفضوح.
هو قدر كل بلاد منقسمة، أو «توافقية». وليس عبثاً أن كراس «اتفاق الطائف» ـ العزيز على قلب الرئيس الحسيني، والحزين لعدم تنفيذه ـ قد تضمن بعد مقدمته، رسائل وكلمات الأمم المتحدة والجامعة العربية والسعودية وسواها… كضمانة للرعاية والمتابعة والتنفيذ، وهذا لم يحصل، لاستئثار سوريا بإدارة البلاد، من خارج المتن الدستوري، واستطابة القوى السياسية الإقامة في الأحضان المخابراتية، بكل «ديموقراطية».
اللبنانيون شُبِّه لهم أنهم ينتخبون، الانتخاب يجري بالتعيين الطائفي. فبئس الانتخاب… «الديموقراطية التوافقية» لا حاجة بها إلى الانتخاب. هي فقط وعاء للتجديد، تجديد القديم. لذا، فنحن محكومون بطبقة سياسية واحدة، بأسماء مختلفة.
من حق لبنان أن يتباهى، بأن لديه «ديموقراطية» تدهش العالم: «ديموقراطية» بلا رئيس، بلا مجلس (مهدد بالتعطيل)، بلا انتخابات، بلا موازنة، بلا محاسبة، بلا قضاء مستقل، بلا إدارة، بلا أحزاب، بلا… سلسلة رتب ورواتب، بلا امتحانات، بلا مباراة لكرة السلة، بلا…
غير أننا، في هذا الدرك السفلي من الانحطاط السياسي، أفضل بكثير من الدول العربية المحيطة بنا والبعيدة عنا… لدينا مكسب رائع جداً، هو الحرية. هذه الحرية، رغم ما يعتورها من مزالق، هي ما يُدَافَع عنه. حريتنا تقارب الفوضى؟ فليكن! إنها أفضل من سلطات عربية تعامل شعوبها بالقمع والإذلال والإلغاء والقتل.
غيرنا لديه «انتخابات» يتباهى بها، بلا ديموقراطية. الانتخابات التي جرت بعيد «انتصارات» الربيع العربي على بعض الديكتاتوريات، أفضت إلى فوز «إسلاميات» مضادة للديموقراطية. إسلام سياسي وانتخابات، مقولة متناقضة. الإسلام السياسي غير ديموقراطي بأساس تكوينه. دينيته لاغية للديموقراطية. حشوده العددية المنقادة إلى السياسة بفعل الإيمان وحرارة التصديق وسهولة الاتباع، تلغي عن الحركات الإسلامية الأهلية الديموقراطية. هي ليست أحزاباً. هي طوائف ومذاهب وفتاوى، تقتحم الدنيوي باسم الدين. توظف الله في مشروعها، والله يقنع المؤمنين سياسياً، إذا نطقت به ألسنة الدعاة ورجال الدين وزعماء الطوائف… تأليف حزب ديني، أمر سهل جداً. مثل «كرجة المي». لا تعب، لا مشروع، لا نقاش. هذا حصل في مصر. وكانت النتيجة، أن ألغى العسكر الإسلام السياسي، وتولى السيسي سلطة قررت الانتهاء من الإسلاميين. لكن كيف؟ بالقوة؟ بالحوار؟ بالإقصاء؟ بماذا؟
لا جواب. العسكر ينفذ ولا يناقش. هذا هو تاريخهم في البلاد التي تحكموا بها.
الانتخابات العراقية مضادة للديموقراطية، لأنها تجديد للانقسام والتقسيم. لا ديموقراطية في بلاد ينتهكها العنف، وتتسيّد فيها الأحزاب المذهبية. الديموقراطية هي الضحية الأولى للعنف والضحية النموذجية للتسلط الديني أو المذهبي. في هذا المقام، تكون الانتخابات لعبة عددية، تزيد الواقع تفسخاً وتشرذماً. لا شرعية لأي انتخابات في ظل حكم ديكتاتوري أو حكم مذهبي طاغ أو تقاسم ديني… الديموقراطية لها آلية شفائية من العنف. هي تقبل التعدد السياسي لأنه يعطيها حيوية ويطلقها في فضاء يظلل الجميع. أما التعدد الأقوامي والطوائفي والديني السياسي، فهو يقيّد الديموقراطية ويوظفها كآلة لإنتاج سلطة استبدادية… لا ديموقراطية مع شعب خائف ومحطم ومدمر… الانتخابات في أوضاع كهذه، هي كحصيرة الأوسمة التي يضعها جنرالات على صدورهم، ولم يخوضوا معركة واحدة في حياتهم.
جرت انتخابات في سوريا. تم التجديد للرئيس بشار الأسد. انتخابات لا تمتلك حظوظاً دنيا من الشرعية الديموقراطية. الانتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية لا يمر عبر صندوقة الاقتراع التي تملك مفاتيحها أجهزة السلطة ومن معها. الأرقام والنسب وتغيُّر المزاج الشعبي، مفردات يمكن تداولها في أنظمة ديموقراطية. هذا انتخاب على الطريقة القديمة، التي تشبه الاستفتاءات، بنتائج الـ90 في المئة… السيسي ليس أفضل.
لدينا ما يدهش العالم في إصرارنا على التخلف، وفي بقائنا الاستثناء الثقافي والحضاري راهناً.
أمام الربيع العربي الثاني مهمة أصعب من الأولى. شعارها ثلاثي الأبعاد. ربيع ضد الاستبداد السياسي (العسكري حكماً) وضد الاستبداد الديني (الطائفي والمذهبي حكماً) وضد الاستبداد الاقتصادي (النيوليبرالي حكماً).
مهمة جديرة بأن تدهش العالم، بطريقة باهرة… حبذا.

السابق
محادثات أميركية – إيرانية في جنيف اليوم لاعطاء زخم للمفاوضات النووية
التالي
انعدام التواصل