الجنوب محتلاً

احمد بيضون

في ذكرى التحرير، أستعيد واحدة من مقالاتي القديمة المتعلقة بمرحلة الاحتلال. وقد نشرت هذه الدراسة، في حينه، باللغات الثلاث ولا تزال تذكر في كلّ عمل جادّ يتعلق بتلك السنين السود من تاريخ الجنوب اللبناني. لمن يجد صبراً على النصوص الطويلة…1
يقتضي فهم ما جرى لما أصبح يعرف ب”الحزام الأمني”، في جنوب لبنان، أن نعود بالذاكرة إلى مأساة فلسطين سنة 1948 حين طرد عشرات الآلاف أو فروا، عبر الحدود، إلى لبنان، وكان معظمهم من الجليل. كانت تشد أهالي الجنوب اللبناني إلى أهالي الشمال الفلسطيني أواصر تقليدية متينة: أواصر تجارة وعمل وصداقة وحتى أواصر قرابة، وكانوا يألفون مدينتي حيفا وعكا، في الواقع، أكثر من ألفتهم بيروت. وقد ازدهرت أسواق الجنوب الأسبوعية، ولم تكن أسواق إنتاج زراعي وحسب، بل أيضا وخاصة، أسواقا للحرف المحلية، بفضل زبائنها الفلسطينيين. هذا فيما كان عدد من اللبنانيين يعملون أجراء أو يملكون أعمالا صغيرة في شمال فلسطين، حتى أن بعضهم نقل إقامته إلى حيفا أو عكا. وكان من المفارقات التي أسفر عنها نشوء إسرائيل أنه عزز التماسك الوطني في لبنان إذ حول وجهة النشاط الاقتصادي في منطقة الجنوب نحو الشمال. هذا ولم تبدأ الهجرة الريفية من الجنوب حقا إلا بعد 1948، وذلك بفعل الضائقة الاقتصادية التي أحدثها سقوط فلسطين، على صعيدي فرص العمل والأسواق.

كان وقع النكبة الفلسطينية عميقا على أهالي الجنوب اللبناني. وحين وصل الفلسطينيون لاجئين، أعان الأهالي كثيرين منهم وأمنوا لهم المأوى. وبينما كان ينشأ عدد من المخيمات في الجنوب، لم يقم أي منها في منطقة الحدود الممتدة بين العرقوب في الشرق الجبلي ونواحي صور على الساحل. هذا مع أن ألوفا من الفلسطينيين المشردين استقروا على هذا الشريط من الأرض وعمل معظمهم في الزراعة، في قطاع التبغ على الأخص. وقد أقام مئات من الفلسطينيين، مثلا، في بلدتي بنت جبيل ونشأت بينهم وبين الأهالي علاقات طيبة، باستثناء حزازات لا تخلو من مثلها العلاقات ما بين العائلات أو العشائر.

على أن الحكومة اللبنانية لم تلبث أن اتخذت في وقت ما من الخمسينات إجراء قضى بإبعاد الفلسطينيين عن منطقة الحدود، بحيث منعوا من دخول القرى المجاورة لهذه الأخيرة إلا بإذن عسكري. كان الهاجس أمنيا ومتصلا أيضا بوقف التهريب الذي تكاثر بين جنوب لبنان والجليل مع وصول اللاجئين. فبات لا يؤذن لهؤلاء بالسكن إلا في القرى التي تبعد عشرة كيلومترات -على التقريب- عن الحدود. وما أزال أحفظ من صباي ذكرى اليوم الذي رحل فيه الفلسطينيون عن بلدتنا ليقيموا في منطقة صور.

وبين 1948 و1968 بقيت المنطقة هادئة، على وجه الإجمال، باستثناء بعض القضم الذي كان يعمد إليه الإسرائيليون على الحدود، فينقلون الشريط عشرين مترا هنا وخمسين مترا هناك غير مميزين في قضم الأرض الزراعية بين ملك لمسلمين وآخر لمسيحيين. يبقى أنه لم تحصل أحداث جسيمة.

التمركز العسكري الفلسطيني

بدأت العمليات الفدائية عبر الحدود اللبنانية الإسرائيلية، على نطاق ضيق، قبل حرب حزيران 1967. ولكن غدوات هذه الحرب هي التي شهدت البداية الواضحة لتنظيم الفلسطينيين أنفسهم عسكريا، إذ خرجوا من مخيماتهم وبدأوا ينشئون قواعد قريبة إلى هذا الحد أو ذاك من الحدود. وقد أدى ذلك إلى احتكاكهم بالجيش اللبناني وإلى صدامات وقعت بينهم وبينه. وانتهى هذا المطاف إلى اتفاق القاهرة في تشرين الثاني 1969، وهو الذي منح الفلسطينيين الحق، فعليا، في شن العمليات انطلاقا من الأراضي اللبنانية.

هكذا عاد الفلسطينيون، في نهاية الستينات، إلى المنطقة التي كانوا قد اضطروا إلى إخلائها قبل ما يزيد عن عقد. على أنهم جاؤوا، هذه المرة، عسكريين، أعضاء في منظمات مسلحة، ولم يأتوا لاجئين مع عائلاتهم. وتجدر الإشارة إلى أنهم لم يحاولوا التمركز في القرى المسيحية، كما أنهم لم يكونوا حلوا في هذه القرى سنة 1948. بل هم تمركزوا، بادئ ذي بدء، في منطقة العرقوب السنية، وهي التي أطلقت عليها الصحافة الدولية لاحقا أسم “فتح لاند”. وقد أقاموا قواعد أيضا في المناطق الشيعية، حول الخيام والطيبة في قضاء مرجعيون، وحول بنت جبيل.

ولا يستغرب أن تواجد الفلسطينيين الجديد حرك الجناح المسيس من الأهالي، وهو بلا ريب جناح أقلي. وقد لقي هذا التواجد بعض التأييد من الجمهور الذي كان يتأثر بالمشاعر القومية، المتقدة في تلك الأيام. فليس من شك في أن أهالي المنطقة كانوا يتقبلون مبدأ الكفاح الفلسطيني، وهم الذين شهدوا بأم العين تجسم النكبة الفلسطينية وشاركوا في مرارة الهزيمة العربية سنة 1967. على أن معظم الناس كانوا، على رغم مشاعرهم الإيجابية حيال القضية الفلسطينية، يرفضون تمركز الفدائيين في المنطقة، وقد أدركوا الخطر المترتب عليه. فمن سجية الجماهير، وهي المستغرقة في هموم كل يوم، أن تؤثر استقرار الوضع القائم، وإن يكن غير مرض، على عواقب مجازفة لا ضامن لعواقبها. وهي لا تصير قابلة للتعبئة إلا إذا حملتها على ذلك سلطة غير منازعة أو غياب للسلطة لا نزاع فيه. كان الفلسطينيون وحلفاؤهم المحليون يشكلون جنين سلطة، ولكن هذا لم يكن يكفي لتحريك الأهالي جملة. من الجهة الأخرى، كانت السلطة الوحيدة القادرة على التصدي لنمو الوجود العسكري هي الجيش اللبناني، وهو الذي كان معظم الأهالي يرون فيه الذراع المسلحة لسلطة مركزية فاسدة ومتحيزة، غير مبالية بمصير المناطق النائية عن المركز.

وكان من ضعف الشعبية هذا أنه حال دون تحول الجيش، وهو الذي كان يسيطر المسيحيون على بنيته القيادية، إلى بؤرة لتعبئة تواجه التمركز العسكري الفلسطيني في المنطقة. فوق ذلك، انتهت الموازين التقليدية للنظام السياسي اللبناني، ومعه التحسب من ردود فعل شعبية، في بيروت وفي مدن أخرى بعيدة عن المنطقة الحدودية، إلى تقييد دور السلطة المركزية وإلى ما بدا كفا ليد الجيش. كذلك كان الزعماء المحليون، وهم المتصلون إلى هذا الحد أو ذاك بدوائر السلطة في بيروت، قد أصيبوا بشلل جزئي وانتهى بهم الأمر إلى التهيب من الوجود الفلسطيني المسلح. وقد أفضت الخصومات القائمة بين النخب المحلية، ومعها قراءة هذه النخب لميزان القوة، إلى جعل بعضها يطلب الحظوة عند المنظمات الفلسطينية المسلحة فيما لزم بعض آخر الصمت. هذا الوضع هو ما يفسر، إلى حد بعيد، بقاء الموقف الحقيقي لأهالي المنطقة، وهو موقف معقد غزير الألوان، مفتقرا إلى التجسد في صورة جلية.

في هذا الوقت نفسه، كان الفلسطينيون ينساقون إلى دائرة التناقضات المحلية. كانت التنظيمات اليسارية والقومية التي سهلت تمركزهم في المنطقة (أي الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي والبعثيون والقوميون العرب وغيرهم) تتنافس في ما بينها لتوسيع ما كان لها من نفوذ محدود النطاق نسبيا في المنطقة، وذلك على حساب الزعماء التقليديين. على أن هذه التنظيمات اللبنانية كانت، وهي تزداد، بفضل سلاح الفلسطينيين ودعمهم السياسي، نفوذا ومهابة، تزداد في الآن عينه عزلة عن الجسم الأهلي الأساسي الذي أخذ يرى فيها خطرا على بنى السلطة التقليدية في القرى، وبالتالي على استقرار القرى السياسي. وتجب الإشارة إلى أن الفلسطينيين لم يظهروا الحذر المناسب دائما في هذا المجال وأخذوا، عوض التوجه إلى عموم الأهالي مباشرة، يزدادون اتكالا على حلفائهم المحليين.

في هذه الأثناء، لم يبق الإسرائيليون مكتوفي الأيدي، وهم يرون الفلسطينيين يبنون وجودهم العسكري ويباشرون القيام بالعمليات من الأراضي اللبنانية. أخذ الإسرائيليون يشنون الغارات، على المخيمات نفسها، أولا، ثم على القواعد التي أنشئت بعيدا عن المخيمات، في منطقة العرقوب خصوصا. وكانت معظم الهجمات تتمثل في القصف المدفعي و قد تتخذ -في النادر- صورة الغارات الجوية. هكذا كنا قد أصبحنا في أيار 1970، حين وقعت المعركة البرية الأولى ، وهي معركة العرقوب التي ما تزال ذكراها ماثلة في المنطقة بسبب ما أبدي فيها من مقاومة. كان التكتيك الفلسطيني يقوم، عموما، على الانسحاب عند حصول الهجوم عوض مواجهة التفوق الإسرائيلي في العدة والعديد. بعد ذلك بنحو شهر قصف الإسرائيليون بلدتي بنت جبيل، وهي واحدة من بلدات المنطقة الكبيرة، فقتلوا وجرحوا عددا من المدنيين. مذ ذاك فصاعدا، تكاثرت الهجمات على القرى متخذة صورة الضربات الجوية أو صورة الهجمة البرية الرامية إلى قتل فدائيين أو أسرهم. ووصل الأمر في أيلول 1972 إلى درجة الاجتياح المحدود، إذ دخل الجيش الإسرائيلي الجنوب بأسلحته كلها ردا على مقتلة الألعاب الأولمبية في ميونيخ. وقد لبثوا هناك أربعين ساعة ثم انسحبوا بعد أن قتلوا نحو 140 شخصا بينهم ثمانون مدنيا. كان الإسرائيليون يشنون حملاتهم، عموما، على الفلسطينيين وعلى اللبنانيين المعروفين بالتعامل معهم. ولكنهم كانوا ينفذون، بين وقت وآخر، عمليات لا غاية لها إلا إرهاب الأهالي المدنيين وإفهامهم أن لتسامحهم بشأن التواجد الفلسطيني عندهم ثمنا عليهم أن يؤدوه.

تحت وطأة القصف الإسرائيلي وسقوط الضحايا المدنيين، أخذ الحماس المحلي للفلسطينيين وللتنظيمات اللبنانية يميل إلى الشحوب. ومع استمرار الغارات الإسرائيلية، بدأ القرويون يضغطون على الوحدات الفدائية لتنسحب من قراهم. وفي أوائل العام 1972، عمدت الحكومة اللبنانية، أخيرا، -وكانت تستجيب لعرائض قدمتها قرى جنوبية- إلى الطلب من الفلسطينيين أن ينسحبوا من المناطق المأهولة. ولم ينفذ الفلسطينيون هذا الطلب إلا جزئيا مؤثرين البقاء في قرى ذات أهمية تكتيكية كان للتنظيمات اليسارية أو القومية فيها وجود مرموق. وحتى في الحالات التي انسحبوا فيها، مكثوا في الجوار وكان مؤدى ذلك أن يلف القرى المخلاة “حزام من النار” لأن الإسرائيليين كانوا يواصلون القصف الكثيف حولها، ليلة بعد ليلة.

هكذا كانت العلاقات بين الفلسطينيين والأهالي المحليين قد تدهورت في أواسط السبعينات، وكان السبب الأبرز لهذا التدهور عمليات القصف الإسرائيلي والاقتصاص من الأهالي والسبب الثاني ما جره من خلل في بنى القرية التقليدية دعم الفلسطينيين للتنظيمات اليسارية والقومية في وجه الزعماء. فوق ذلك، أدت عصبية الفلسطينيين حيال التغير الذي طرأ على مواقف الأهالي إلى زيادة الوضع سوءا. فهم شرعوا في التصرف بأساليب متسلطة أغضبت الأهلين كثيرا، منها إقامة حواجز التفتيش والتدقيق في تحركات الناس لدواع أمنية. وكانت حصيلة هذا كله أن الفلسطينيين خسروا، إلى حد واسع جدا، مساندة الأهالي. وهذا أمر يجب أن نعيه حتى نفهم ما جرى بعد عام 1975.

الحرب الأهلية

اندلعت حرب لبنان في نيسان 1975، ولكن الجنوب بقي هادئا، نسبيا، مدة زادت عن السنة.والواقع أن الشعور بأطوار الحرب المختلفة كان يحصل في الجنوب من خلال تضخم القرى وانكماشها تباعا، بحكم أن كلا منها كانت قد أرسلت عددا من أبنائها إلى بيروت وضواحيها يساوي، على الأقل، عدد الذين صمدوا فيها. كان معنى هذا أن كل موجة من موجات العنف كانت تقذف بألوف اللاجئين إلى أمان قراهم الأصلية ليرتدوا نحو بيروت في مرحلة الهدوء التالية.

هذه المرحلة من الأمان النسبي (في الجنوب) أدركت نهايتها في صيف 1976، لتبدأ مرحلة حاسمة مهدت الطريق نحو إنشاء “المنطقة الأمنية”. ففي أوائل آب، أي قبل سقوط مخيم تل الزعتر الفلسطيني بأقل من أسبوعين، اجتاحت القوات المسيحية اليمينية أحياء الشيعة في ضواحي بيروت الشمالية أي في النبعة وبرج حمود والدكوانة، وشردت سكانها بعد تكبيدهم خسائر جسيمة في الأرواح. وكان انكفاؤهم نحو الجنوب أشبه بقيام الساعة، إذ تقاطر إلى قرى غير مهيأة لمثل هذا عشرات من ألوف اللاجئين أصبحوا مشردين من غير مأوى. فقد كانت النبعة وحدها تعد 200000 نفس معظمهم من الجنوب. وفي بنت جبيل، مثلا، كان عدد المقيمين يبلغ اثني عشر ألفا أو ثلاثة عشر ألفا، فوصل في غضون شهر واحد إلى 24000، ونشأت من ذلك مشاهد أشبه بالكوابيس لخمسين شخصا، مثلا، يتكدسون في منزل من غرفتين: ينامون على السطوح و في الحدائق وعلى الشرفات، متخذين من كل مكان متاح مرقدا. وكان وعيهم أن المنظمات الفلسطينية وحلفاءها اللبنانيين، أي المولجين بالدفاع عن الضواحي، قد عزفوا عن القتال عند الهجوم الأخير، يزيد المرارة في نفوسهم ويشعرهم بأنهم تركوا من جانب قوى عولوا على حمايتها ذات يوم.

حوالي هذا الوقت الذي كانت القرى الشيعية تنوء فيه تحت طوفان اللاجئين إليها، كانت المنطقة تشهد ظاهرة أخرى ستكون لها عواقب حاسمة على مستقبل الجنوب. تلك كانت تدفق مئات من الجنود المسرحين إلى القرى المارونية، وكانوا عائدين إلى بيوتهم بعد أن وقع في الجيش انشقاق طائفي بدأ يظهر إلى العلن في أوائل 1976. كان يوجد عدد من هذه القرى ينتشر على طول الحدود: من علما الشعب في الغرب إلى دبل وعين إبل والقوزح ورميش ويارون (والأخيرة مختلطة دينيا) في الوسط إلى القليعة قرب مرجعيون في الشرق. هذه القرى، وهي زراعية الطابع أساسا وفقيرة إجمالا، كانت تتميز بالنسبة غير العادية لشبانها المنخرطين في القوى العسكرية. فالواقع أن الجيش اللبناني يستمد معظم عديده من مناطق الأطراف المحرومة، وهي، في ما يخص المسيحيين، عكار في الشمال و البقاع الشرقي وقرى أقصى الجنوب. وقد تعززت عسكرة هذه القرى بوجود قوة رديفة، معادية للفلسطينيين ضمنا، هي “أنصار الجيش” التي أنشئت حتى قبل اندلاع الحرب. ارتد الجنود الغاضبون بسلاحهم إلى قراهم، وكانوا قد أصبحوا معتصبين -أو قل متعصبين- سياسيا وطائفيا وسط الاستقطاب المتزايد الذي نشأ من الحرب، بعد أن استولى على ثكناتهم مسلمو “جيش لبنان العربي” بقيادة أحمد الخطيب. كانوا حانقين على الفلسطينيين، باعتبارهم القوة الضاربة الرئيسة على الجهة الأخرى، وحانقين أيضا على حلفاء الفلسطينيين من المسلمين باعتبارهم مرتكبي التمرد في الجيش.

تلك هي الخلفية التي عول عليها الإسرائيليون إذ بدأوا يزيدون من حدة تدخلهم على أكثر من صعيد. فهم كانوا قد باشروا، منذ أواخر الستينات وأوائل السبعينات، في استثمار الظاهرة الطائفية في المنطقة الحدودية وحاولوا تكوين شبكات من المخبرين جندوا لها مسيحيين ومسلمين. على أن هذا الجهد بقي محدودا، فلم يبدأ الإسرائيليون استثمارهم الجاد للورقة الطائفية إلا مع اندلاع الحرب الأهلية.

بدأوا بإرساء سياسة “الجدار الطيب” وكانت موجهة، في الأساس ولكن من غير حصر، إلى القرى المارونية. فوزعوا مواد غذائية وتموينية، وإذ كانت الخدمات الطبية اللبنانية في حال فوضى مطلقة، قدموا خدمات طوارئ مجانية إلى جمهور المهجرين وقبلوا بعض المرضى اللبنانيين في مستشفياتهم. وما لبث بعض الأفراد من هذه المنطقة التي كان الخراب الاقتصادي قد عمها، أن حصلوا على رخص بالعمل في إسرائيل.

على صعيد آخر، زاد الإسرائيليون من اتصالاتهم بالقرى المارونية، وكانت هذه إلى حينه تعايش بسلام جاراتها المسلمة، فيتبادل الأهلون الزيارات في مناسبات الدفن والعزاء وفي الأعراس والأعياد الدينية. ولا تزال تحضرني من ذكريات الصبا في بنت جبيل مشاهد الشبان يتمشون نحو قرية عين إبل المجاورة لاحتساء كأس من البيرة (وكان هذا ممنوعا في القرى الشيعية) ولاختلاس النظر إلى الصبايا الجميلات، الخارجات للتنزه في أماسي الصيف. ومع أن المسيحيين كانوا قد بدأوا يبدون تذمرهم من تعاظم الوجود العسكري الفلسطيني لأصدقائهم من المسلمين ولوجهاء هؤلاء، فإن العلاقات بين الطائفتين بقيت ممتازة في غضون السنة الأولى من الحرب.

وسرعان ما بدا واضحا أن هدف الإسرائيليين إنما هو قطع القرى المسيحية عن محيطها المسلم. ولم تكن أية من هذه القرى تبعد عن الحدود أكثر من ثلاث كيلومترات، الأمر الذي يسر تموينها وتسليحها تمهيدا لفتح جبهة جديدة في مواجهة الفلسطينيين. وقد عملت إسرائيل لتنفيذ هذه السياسة عبر حزب الكتائب الذي كانت تدعم سرا مجهوده الحربي وكان له وجود محدود في كل من تلك القرى.

على أن الاستقطاب المتنامي واستعار الشعور المعادي للفلسطينيين، بفعل الحرب، ومعهما عسكرة القرى بفعل تدفق الجنود الغاضبين، مسلحين ومتعطلين إليها، لم تكن كلها كافية لجعل السيطرة الإسرائيلية على قرى الحدود، بواسطة الأعوان المحليين من الكتائب، أمرا سهلا في جميع الحالات. صحيح أن بعض القرى – القليعة مثلا- رضخ بسرعة للمشيئة الإسرائيلية. كان في القرية نحو من 400 جندي مسرح، وهذا عدد مذهل في قرية لم يكن عدد سكانها يتجاوز الثلاثة آلاف، فكانت القليعة شديدة العسكرة وكان لها ، على الأرجح، أن تخشى، في الجو السائد، وقتذاك، انعكاسات لولائها لكميل شمعون *، وهو إذ ذاك عدو لدود للحلف الفلسطيني- الإسلامي- اليساري الذي كان له جاه عريض في بلدة الخيام المجاورة.

عند الطرف الآخر من هذه المروحة، كانت تقع عين إبل، وهي قرية جد جميلة، ميسورة نسبيا، كانت تعيش أساسا من تحويلات أبنائها العاملين في الخليج. كانت لعين إبل، وهي أقل عسكرة بكثير من سائر القرى المارونية، علاقات مقبولة بالفلسطينيين، الذين كانوا يعتنون بأن تتلقى القرية حصتها كاملة من الطحين والمحروقات وغيرها، ولم تكن القرية راغبة في خسارة استقرارها. ولم يكن عناصر الكتائب في القرية من القوة ولا من الانضباط بحيث يتمكنون من فرض موقف جماعي على القرية معاد لمحيطها وللفلسطينيين. غير أن صيف 1976 شهد إرسال طليعة من خمسة عشر مقاتلا كتائبيا مدججين بالسلاح جاؤوا بحرا من جونية، في الشمال المسيحي، عبر حيفا في إسرائيل ، ووصلوا من هناك على عربات إسرائيلية إلى عين إبل. هناك جمعوا جمهور الأهالي في دار البلدية وأعلنوا عليهم نيتهم فتح جبهة في وجه الفلسطينيين بدعم من إسرائيل. ولم تجد فتيلا احتجاجات الأهالي الشديدة الغاضبة، وقد هزهم توقع وصول الحرب إلى عقر دارهم. فقد كان القادمون الجدد شاكي السلاح وما لبثوا أن أخذوا يستثمرون خصومات مختلفة لمباشرة توزيع السلاح على الشبان المتبطلين، الراغبين في الذهاب إلى إسرائيل للتدرب.وهكذا سقطت عين إبل في دائرة السيطرة الإسرائيلية. وأما رميش فكانت المقاومة فيها أضعف بسبب قوة التقليد العسكري هناك: كان في القرية نحو من مائة جندي وشرطي، على الأقل، سرحوا بعد تفكك الجيش، وكان “أنصار الجيش” حاضرين أيضا. وكانت حال دبل مماثلة. ثم إن القريتين كانتا قد أصبحتا متورطتين في سياسة الجدار الطيب الإسرائيلية. هكذا كان أن الإسرائيليين وحلفاءهم الكتائبيين استثمروا حساسيات الأقلية ونقاط الضعف المتأتية من مناخ الحرب، فأفلحوا في ما أخفقت التنظيمات اليسارية والقومية اللبنانية في تحقيقه، وهي تواجه الوجهاء التقليديين في القرى الشيعية بالاستناد إلى الفلسطينيين. وفي أواخر صيف 1976، كانت إسرائيل قد باتت تتحكم في جميع قرى الحدود المارونية.

وفي أيلول 1976، بدأت عناصر مسلحة من القليعة، يساندها الإسرائيليون، تقطع الطريق إلى مرجعيون حيث تقوم ثكنة للجيش اللبناني بات يسيطر عليها جيش لبنان العربي الذي كان يدعمه الفلسطينيون. وزادت التوتر، في هذه الأثناء، سلسلة من الحوادث اتهم بها الفلسطينيون، ضمنا، ولو من غير دليل. وفي نهاية الشهر نفسه، كانت ذيول الصدام الذي وقع في عين إبل بين الفلسطينيين ومسلحي القرية على وشك أن تسوى سلميا، بعد وساطة تقليدية بادر إليها وجهاء من عين إبل وبنت جبيل، عندما أطلقت، دونما إنذار، قذائف الهاون الأولى على بنت جبيل من جارتها المارونية. كان الذين جاؤوا لفتح الجبهة قد فتحوها. وعند الطرف الآخر من المنطقة، إلى الشرق، تكررت الظاهرة نفسها، إذ أخذت القليعة تقصف جارتيها الخيام والطيبة. وقد مثل قصف القرى الشيعية من جاراتها المسيحيات أمرا لا رجعة فيه. وفي تشرين الأول 1976، كانت القرى المسيحية قد قطعت تماما عن جوارها الداخلي.

مهد قصف أيلول لمبادرة الإسرائيليين إلى تكليف الرائد سعد حداد، وهو ضابط في الجيش اللبناني من مرجعيون، تركيز الجهد العسكري و تنظيم المليشيات المحلية التي كانت لا تزال، من حيث الأساس، وحدات قروية مبعثرة تعمل كل منها بقدر من الاستقلال عن غيرها، وإن كانت إسرائيل توجهها جميعا عن بعد عبر مراكز الكتائب في المنطقة.وفي تشرين الأول، انتزع جنود سعد حداد، بمعونة من الإسرائيليين، ثكنة مرجعيون من جيش لبنان العربي المعقود اللواء لأحمد الخطيب، وأقاموا هناك قيادتهم العامة. تلك كانت بدايات ما أصبح لاحقا جيش لبنان الجنوبي، ومذ ذاك عكف سعد حداد على تكوين هيكلية لهذه القوة. و قد أتيح له عون من ضابطين منشقين أو ثلاثة من ضباط الجيش اللبناني، ولكن قيادة الوحدات عهد بها، في الغالب، إلى ضباط صف تسلقوا سلم الرتب متخطين الدرجات على عجل.

في أثناء هذه المرحلة نفسها، نفذت الخطوات الأولى نحو “تنظيف” مناطق واقعة تحت السيطرة الفلسطينية الإسلامية كانت تفصل ما بين القرى في المعاقل المارونية الثلاثة على الحدود، في الغرب والوسط والشرق. كان العبور من دبل أو من عين إبل إلى رميش ، مثلا، يقتضي المرور بقرية حانين الشيعية التي كان للفلسطينيين وللبعثيين اللبنانيين نفوذهم فيها. وفي تشرين الثاني 1976، اجتاحت القوات المسيحية حانين ، وكان الإسرائيليون يغطونهم ويساندونهم ، وأخرجوا السكان من ديارهم وسووا القرية كلها بالأرض. فلم يبق اليوم من قرية كانت تعد ثلاثة آلاف نفس إلا منزل واحد أعاد بناءه المختار العجوز وأقام فيه مع زوجته. على الشاكلة نفسها، كان التواصل بين مسيحيي رميش، في الوسط، وعلما والناقورة، في الغرب، يقتضي المرور عبر قريتي مروحين ويارين السنيتين. فكان أن دمرت كلتاهما وشرد أهاليهما في ذاك الخريف نفسه ( وإن يكن سمح لهم بعد بضع سنوات بالعودة وإعادة البناء، وهو ما فعله بعضهم). هذا وقد لقيت مارون الراس والقنطرة المصير نفسه. هذه العمليات وطدت المعاقل المارونية، كلا على حدة، ولكن أشرطة من الأرض بقيت تفصل ما بين القطاعات الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. ولم يتيسر الوصل ما بين هذه القطاعات إلا مع الاجتياح الإسرائيلي في سنة 1978.

لم يغب القصف عن المنطقة طوال العام 1977. وحوالي الوقت الذي كان الموارنة والإسرائيليون يفتحون فيه الجبهة الجديدة، كان كثير من الفلسطينيين الذين كانوا قد غادروا القرى في أوائل السبعينات تحت ضغط الأهالي الشيعة، يعودون إليها، وهو ما زاد العلاقات الشيعية الفلسطينية سوءا. وحوالي سنة 1977، كانت الجهة “الفلسطينية- الإسلامية- التقدمية” تضم فلسطين من مختلف الفصائل وعراقيين و”محرومين” من أنصار الإمام موسى الصدر * جاؤوا من مناطق أخرى ومقاتلين من الحزب السوري القومي الاجتماعي جاؤوا من جبل لبنان. وأما المقاتلون اللبنانيون من المنطقة نفسها فكانوا قد تبخروا منذ أن بدأت الحرب حقا، وكانت ذريعتهم، على الأغلب، مرافقة عائلاتهم إلى مواضع آمنة، ولكنهم لم يكونوا يرجعون بعد ذلك.

والواقع أن المنطقة الحدودية كانت تقفر من سكانها بسرعة، تحت وطأة القصف الإسرائيلي. فقد تدحرجت بنت جبيل عن قمة ال24000 نفس الذين كانت تؤويهم في آب 1976 إلى حضيض الأربعمائة نفس بعد ذلك بأشهر. كذلك فرغت من سكانها -وأكثريتهم مسلمون- بلدة الخيام، وهي من أكبر بلدات الجنوب وأغناها، وكان سكانها يناهزون العشرين ألفا عشية الحرب. ومن كان تبقى منهم وسط الخراب، أخرج بالقوة سنة 1978، وأخذ الإسرائيليون يستعملون البلدة المنكوبة حقلا للتدريب على مناورات حرب الشوارع، فيخوضون بدباباتهم ومدرعاتهم معارك وهمية بين هياكل حزينة من غير سقوف لبيوت نخرتها فجوات قذائف الهاون. (بعد 1981، أذن للأهالي بالعودة إلى الركام الذي تحولت إليه بيوتهم فعاد منهم آلاف قليلة وباشروا إعادة البناء.)

وتجب الإشارة إلى أن القرى المسيحية كانت أكثر صمودا بكثير في مقاومة النزوع إلى الهجرة، وأهم الأسباب علمها بأن من شأن الوجود الإسرائيلي أن يعصمها من الاستباحة. كان عليهم أن يصمدوا لقصف الهاونات، لا أكثر من ذلك، فيما كانت القرى الشيعية تواجه، لا القصف وحده، بل أيضا خطر الاجتياح و المجازر، وهو خطر لم تكن تعوزه سوابق تشهد بوجوده.

الاجتياحان الإسرائيليان وترسيخ الحزام الأمني

ظهر الحزام الأمني إلى الوجود على أثر اجتياح آذار 1978، عندما اقتحمت القوات الإسرائيلية لبنان وهدفها المعلن احتلال شريط من الأرض عرضه 10 كيلومترات إلى الشمال من الحدود للحؤول دون الهجمات التي كان الفلسطينيون يشنونها على إسرائيل. عوض ذلك مضت القوات من غير توقف حتى نهر الليطاني محتلة ما يزيد عن عشر الأرض اللبنانية. وإذ واجهت إسرائيل ضغطا دوليا قويا تمثل في قراري مجلس الأمن الدولي 425 و426 اللذين نصا على انسحاب فوري للقوات الإسرائيلية من جميع الأراضي اللبنانية وعلى تشكيل قوة الأمم المتحدة الخاصة يونيفيل، انسحب الإسرائيليون جزئيا على مرحلتين. على أنهم، عشية الانسحاب الأخير في حزيران 1978، عمدوا إلى تسليم الشريط المتبقي، وعرضه 10 كيلومترات، إلى مليشيا الرائد حداد التابعة لهم. وفيما ادعت إسرائيل، رسميا، أنها أتمت انسحابها، لم يكن سرا على أحد أن جيش لبنان الجنوبي بقي “معززا” بجنود إسرائيليين، وأن الضباط الإسرائيليين موجودون هناك، على الدوام. وأما قوة الأمم المتحدة فحيل بينها وبين إتمام انتشارها في المنطقة. وهكذا ولد “الحزام الأمني”.

عانى أهالي المنطقة الأمرين خلال اجتياح 1978. فقد دخلت القوات الإسرائيلية القرى الشيعية، ترشدها عناصر من المليشيات المسيحية كثيرا ما ظهر أنهم من القرى المجاورة . في بنت جبيل، جمعوا الأهالي الأربعمائة الذين كانوا باقين هناك و حشروهم حول بركة البلدة . وقد أجبر هؤلاء على البقاء دون مأوى، مدة ثلاثة أيام، تحت حراسة مشددة إلى أن انتهى الإسرائيليون وأعوانهم من تفتيش البيوت جميعا، ناهبين ومخربين ما عرض في طريقهم. وقد نسفوا بانتظام جميع البيوت التي وجدوا فيها أثرا لوجود فلسطيني، أية كانت صورته، سواء أكانت هذه البيوت قد قدمت طوعا أم صودرت. وعوملت معظم المباني العامة المعاملة نفسها فسويت بالأرض. وقد اعتمد هذا المسلك في الجنوب المحتل كله، فأضيفت عشرات جديدة من ألوف الناس إلى جمهور فاقدي المأوى، وقتل مئات أعدم بعضهم دون سبب، ومنهم سبعون من المدنيين العزل أبيدوا في مسجد ببلدة الخيام.

وفي الأسابيع التي تلت الاجتياح، أذن للأهالي الذين كانوا قد لاذوا بالفرار، بأن يعودوا زرافات إلى قراهم المنكوبة. وقد عاد كثيرون، إذ أصبحوا لا يطيقون الاستمرار في العيش تحت الخيام وفي المساجد والمدارس. وكان آلاف من الناس قد خيموا تحت الأشجار، عند مدخل صيدا الشمالي، ولم يكن الفصل البارد قد انقضى بعد. وفي جميع القرى، كان يدقق في أوضاع العائدين،بمساعدة من أعوان محليين كانوا يحسنون القيام بهذه المهمة لمعرفتهم الحميمة بجيرانهم وأبناء قراهم.

اقتضى إنشاء الحزام الأمني إعادة تنظيم عميقة لجيش لبنان الجنوبي الذي كان، إلى ذلك الحين، قوة تكاد تكون مارونية حصرا، مؤلفة من شبان من أهل المنطقة معظمهم جنود فارون من الجيش اللبناني، ومن مقاتلين كتائبيين وفيه عناصر أخرى أحدث التحاقا. وقبل الاجتياح كانت إحدى المشكلات الكبرى التي عانت منها هذه القوة، نفور الوحدات المحلية من الخدمة خارج القرية التي تنتمي إليها. وأما الوضع الجديد، فأصبح تشكيل الوحدات المتحركة فيه أمرا حيويا لضبط المنطقة بأسرها. لذا بدأت حملة تجنيد وتدريب واسعة، توجهت إلى الشيعة أيضا، لا لزيادة عديد القوة وحسب، بل أيضا لتحاشي الإشكال الناشىء عن تكليف قوة مارونية، حصرا، بضبط الأمور في منطقة يغلب بين سكانها المسلمون.

كان التجنيد يتم بتوسط لجان القرى التي شكلت، تحت الإشراف الإسرائيلي، في كل قرية، غداة الاجتياح. وكانت هذه اللجان المحلية مكلفة تنظيم الخدمات البلدية لتعويض غياب المجالس التي كان معظمها متوقفا عن العمل. وقد تولى أعضاء اللجان أيضا مهمة المخبر. وفي ما يتصل بالتجنيد، كان على جيش لبنان الجنوبي أن يحدد عديد المجندين المطلوب ثم أن يحدد لكل لجنة حصة من العدد تناسب حجم القرية.

ولم يكن مفاجئا أن طلائع المنضمين إلى القوة كانوا أكثر عناصر الجماعة هامشية وأدناهم اعتبارا. وكان بعضهم قد خدم سابقا في التنظيمات الفلسطينية أو المؤيدة للفلسطينيين. فقبلهم الإسرائيليون، بعد مرحلة اعتقال و”تأهيل” قصيرة، وكان الضرب أهم طرق التأهيل المذكور. على أن التجنيد، على العموم، بدا مهمة عسيرة. فقد كانت الأسر ترسل أبناءها الذين يبلغون “سن التجنيد” للإقامة عند أقارب في خارج المنطقة. وإلى اليوم، ما تزال الصفوف الثلاثة الأخيرة، في ثانويات المنطقة، تكاد تقتصر على البنات. وكثيرا ما صحب الأهل أبناءهم فأسهم ذلك في إخلاء المنطقة من سكانها.

وما لبث الإسرائيليون أن وجدوا سبلا لمقاومة النفور من الانضمام إلى جيش لبنان الجنوبي. فقد دشنوا، في ظرف الضائقة الاقتصادية الخانقة، نظاما قضى بأن يعطى عضو من عائلة كل جندي الإذن بالعمل في إسرائيل. وكانت الأجور تدفع بالدولار، فأمكن لكل عامل أن يكسب نحوا من 300 دولار شهريا بدلا من معدل كان قد انحدر إلى 30-40 دولارا شهريا بالليرة اللبنانية. هذا المبلغ، يضاف إليه 150 دولارا هي راتب الجندي، باستثناء العلاوات، كان يوفر للعائلة دخلا يبلغ 450 دولارا بالعملة الصعبة، في بلاد بلغ فيها راتب الوزير 300 دولار.

فضلا عن العوامل الاقتصادية، تأثر مساق التجنيد في جيش لبنان الجنوبي باعتبارات تتعلق بالسلطة أو بالنفوذ في نطاق القرية. فحين كانت أسرة من الأسر تجد سببا للسماح لواحد أو أكثر من أبنائها بالانضمام إلى هذا الجيش، كانت الأسر المنافسة تجد نفسها مهددة ومفتقرة إلى حماية. هكذا كانت دقة الموازين المحلية، السياسية والعائلية، تجعل دخول بضعة أنفار من أسرة معينة في الجيش سببا كافيا لمبادرة أسر أخرى إلى تشجيع حفنة من أبنائها على الدخول أيضا.

هذا وتتصل أسباب أخرى بالهموم الطائفية وبموازين المكانة بين القرى. ففي المدة التي تلت الاجتياح، مباشرة، كانت كل من الوحدات التي أرسلت من جيش لبنان الجنوبي ل”فرض القانون والنظام” في قرية من القرى الشيعية، مشكلة بتمامها، تقريبا، من عناصر تنتمي إلى واحدة -أو إلى اثنتين، في أبعد تقدير،- من القرى المارونية. فتولت ضبط بنت جبيل، مثلا، عناصر من جارتيها دبل ورميش. وكان هذا باعثا لشعور شديد بالإهانة. وكان يزيد من هذا الشعور البعد المتصل بالعلاقات بين الطائفتين. ففي ذلك الوقت، كان الشعور بالمرارة قويا من جراء التعاون الماروني مع الإسرائيليين والقصف الماروني لقرى شيعية والدور الذي لعبته المليشيات المارونية في أثناء الاجتياح. فضلا عن ذلك، لم يكن جنود جيش لبنان الجنوبي موارنة عاديين، بل كانت الحرب قد أدت بالكثيرين منهم إلى تعصب زائد حيال المسلمين وكانت تجاربهم في الحرب قد مالت بهم نحو القسوة. وهم كثيرا ما كانوا على قدر من الانحطاط الخلقي، وكانت أبلغ الشكاوى منهم أن تصرفات غير مقبولة بدرت من بعضهم حيال الشابات في القرى. لم يكن القرويون ليتسامحوا في هذا الأمر، وهو ما دفع بعضهم إلى المطالبة بإنشاء قوة منهم في قراهم. وكانت الفرضية التي لقيت قبولا واسعا أن الأهالي يبقى لهم شيء من الرقابة على قوة مشكلة من أبنائهم، بقدر ما يبقى هؤلاء أسرى شبكة العلاقات والضوابط التقليدية برمتها.

هكذا أصبحت وحدات جيش لبنان الجنوبي، في القرى الشيعية، مشكلة، في صلبها، ابتداء من أواخر السبعينات، من عناصر مجانسة لها، وهذا مع بقاء الضباط المسؤولين مسيحيين في جميع الحالات تقريبا. فحتى اليوم لا يوجد شيعة في البنية القيادية لجيش لبنان الجنوبي، ويقتصر الأمر، في المرتبة الوسطى، على عدد محدود ممن لهم بعض السلطة على مستوى القرية الواحدة أو المجموعة من القرى. على أن 40 إلى 50 % من العديد باتوا من الشيعة. وهذه نسبة جوهرية وإن كانت أهميتها تضؤل حين نفطن إلى أن الشيعة يشكلون نحو 80% من مجموع السكان.

ومع وجود جيش لبنان الجنوبي وشبكات المخبرين في كل مكان، سرعان ما ساد الهدوء “الحزام الأمني”. والواقع أن المقاومة كانت ضئيلة. وقد سبق القول إن منطقة الحدود كانت، عند حصول الاجتياح، قد أفرغت من معظم سكانها، بسبب القصف المتصل الذي شهدته الشهور الثمانية عشر السابقة، وكانت القرى التي ظهر منها ميل ما إلى المقاومة، إذ عرقلت الاتصال بإحدى جاراتها المسيحيات، مثلا، قد سويت بالأرض، كليا أو جزئيا. وقد أخل خراب بلدات رئيسية، مسلمة أو مختلطة، شأن الخيام ومرجعيون وبنت جبيل إخلالا عميقا بنظام الحياة في القرى المجاورة. فضلا عن ذلك، كان الشبان الذين يؤهلهم سنهم للانخراط في عمل المقاومة قد غادروا المنطقة في أيام الاحتلال الأولى تحسبا من تجنيدهم في جيش لبنان الجنوبي.

وحين انطلقت إسرائيل في اجتياحها الضخم، في حزيران 1982، اندفع جيشها عبر “المنطقة الأمنية” من غير عائق. ولكن القتال أصبح عنيفا حين تقدم الجيش نحو بيروت. فقتل ألوف من المدنيين. وسقطت على العاصمة أطنان من القذائف لا يتصور عددها العقل، صبتها القاذفات الإسرائيلية والهاونات وقطع المدفعية. وكان أن قررت أسر كثيرة كانت قد هجرت من المنطقة الحدودية، في السنوات 1976-1978، أن تعود إلى قراها، معتبرة أنه لما كان نصف البلاد قد أمسى محتلا، على كل حال، فإن الأمثل للأسرة أن تعود إلى بيتها حيث يتوفر لها بعض الأمان، على الأقل.

وقد يصح القول إن شيعة كثيرين، من الجنوب، تنفسوا الصعداء في أيام الاجتياح الأولى. كان الناس قد ضاقوا ذرعا بالحرب، وضاقوا ذرعا بحكم المليشيات، الفلسطينية منها واللبنانية، وضاقوا ذرعا بالتمزق الذي عم البلاد. وقد أضلتهم مؤقتا تصريحات الإسرائيليين الداعية إلى حل لبناني يلي تصفية الوجود الفلسطيني المسلح: كان يفترض أن تقوم سلطة مركزية قوية تفتتح عهدا من المصالحة الوطنية وتحل المليشيات، على أن ينسحب الإسرائيليون حالما يتم ذلك. وكان هناك أيضا، برغم ما في الأمر من مفارقة، شعور بأن من شأن الاحتلال الإسرائيلي أن ينهي القصف الإسرائيلي، أي بأن إسرائيل -بوجيز العبارة- ستخلص لبنان من إسرائيل.

ولكن الناس سرعان ما أدركوا خطأهم. إذ تكرر ما جرى سنة 1978 من حملات تفتيش واستجواب متكررة و تعسفية. كان الأهالي يجبرون على التجمع، عدة مرات في بعض الأيام، “للتدقيق في الهويات”، فيضطرون إلى الوقوف ساعات تحت الشمس الحارقة. ومرة أخرى حصلت أعمال تخريب وحصل، في بعض الحالات، عبث بالمقدسات. ومرة أخرى نسفت بيوت على مجرد الشبهة بأنها أوت نشاطا مليشويا، وهو ما زاد في ضخامة الجحافل التي أصبحت بلا مأوى. ومرة أخرى أوقف بعض الأهالي وسيقوا إلى الاعتقال من غير سبب ظاهر. وكان نصيب المئات من الذين عادوا إلى قراهم الأصلية فرارا من مناطق القتال في الشمال، وخصوصا أولئك الذين كان لهم نوع من الماضي السياسي، أنهم أوقفوا فورا وأرسلوا إلى معسكر أنصار أو إلى معتقلات أخرى في داخل إسرائيل.وقد كانت الاعتقالات في المناطق المحتلة حديثا وفي صفوف الفلسطينيين هي الأوفر عددا بطبيعة الحال. وباستثناء الذين ألقي القبض عليهم وهم شاهرو السلاح حين كان الإسرائيليون مندفعين نحو بيروت، ( وهؤلاء كانوا مرشحين للبقاء في الاعتقال مدة غير محدودة) فإن مدة الاعتقال كان يستحيل التنبؤ بها تماما. كان يمكن أن يطلق سراح المعتقل بعد أيام قليلة من الاستجواب السطحي أو أن يبقى لينتن في المعتقل حتى إقفال هذا الأخير، بعد ذلك بسنوات. لم تحصل محاكمات قط. وفي معظم الحالات، كان كل شيء رهين مزاج الضابط، متوقفا على اطمئنانه أو عدم اطمئنانه إلى سحنة السجين أو إلى طريقته في الكلام، أو على ما يتفق له أن يعرفه عنه.

ولدت المقاومة اللبنانية مع احتلال إسرائيل لبيروت في أيلول 1982. وسرعان ما نمت في الجنوب مع نهاية ذلك العام. وكانت المقاومة في المنطقة الحدودية محدودة للسبب نفسه الذي حد منها في سنة 1978: أي افتقار المنطقة إلى العناصر الشابة وسهولة وضع اليد على من تبقى منهم بالنظر إلى النسبة غير الطبيعية من المسنين والنساء هناك. وقد فاقمت من هذه الحال آثار سنوات أربع تحت الاحتلال. ولكن سكان تلك المنطقة، شأنهم شأن أهل الجنوب جميعا كانوا فخورين بمقاومة رأوا فيها مقاومتهم هم. وقد اشتركت كل فصائل الحركة الوطنية السابقة والتنظيمات الإسلامية في العمل، ولكن بقي للمقاومة وجه جنوبي وشيعي لا يجادل فيه. وكانت السيطرة الكاسحة عليها لتنظيمين شيعيين رئيسيين هما حركة أمل وحزب الله. على أنه تجب الإشارة إلى أن جمهور السكان تماهى مع أمل أكثر بكثير من تماهيه مع حزب الله الذي كان لا يزال يشكو عزلة على المستوى الشعبي. كان حزب الله، شأن الأحزاب الشيوعية، في حالات أخرى، حسن التنظيم ومتماسكا داخليا ولكنه غير قادر على بسط تأثيره إلى ما يتعدى وسط المناصرين الذين كان يستمد أعضاءه من صفوفهم. كانت أيدلوجيته وطريقة سلوكه شديدتي الاختلاف عن كل ما يمكن أن يشكل توقا جماعيا ههنا.

وقد كانت المقاومة هائلة الفعالية. فعلى مدى ما يزيد عن سنتين، كانت الخسائر الإسرائيلية قريبة إلى معدل لم يعرفوه قط، وهو مقتل جندي كل يوم. وقد فاقت هذه الخسائر خسائر المقاومة، وكان هذا غير معهود أيضا. فاضطر الإسرائيليون الذين ألفوا التبختر في البلدات والمدن، في أيام الاجتياح الأولى، إلى الجنوح أكثر فأكثر نحو التخفي. وقد حققت المقاومة، في نهاية المطاف، ما عجزت الجيوش العربية النظامية، حتى الآن، عن تحقيقه، وهو إجبار الإسرائيليين على الانسحاب من أرض عربية احتلوها.

في حزيران 1985، كان الإسرائيليون قد أتموا المرحلة الثالثة من انسحابهم من الجنوب المحتل. وقد سلموا المنطقة التي رفضوا إخلاءها إلى السلطة الاسمية لجيش لبنان الجنوبي. غير أن الإسرائيليين بقوا في المنطقة، كما كانوا قد فعلوا سنة 1978، وإن بأعداد أقل، جاعلين وجودهم الدائم هناك أكثر خفاء. وقد تراجعت فاعلية المقاومة كثيرا مذ ذاك لأسباب عدة تتخطى نطاق حديثنا هذا. وعادت الخسائر الإسرائيلية في المنطقة غير ذات دلالة. وأما خسائر جيش لبنان الجنوبي، وهي أكبر بقليل، فلم يبد أنها تؤرق أجفان الإسرائيليين كثيرا. فجنود جيش لبنان الجنوبي إنما يدفع لهم، بعد كل حساب، ليموتوا، وما هم، وفق عبارة واسعة الانتشار هنا، غير أكياس رمل لإسرائيل.

وقد أضاف الحزام الأمني الجديد، في صورته التي استقر عليها سنة 1985، قطاعين من الأرض (في الشرق وفي الوسط الغربي) إلى ما كان يضمه في سنة 1978. وعوض الهلال السابق الذي كان يمتد من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، باتت ” المنطقة الأمنية” الجديدة ترسم نوعا من نصف دائرة. وهي لم تعد مجرد منطقة فاصلة تعزل الحدود الإسرائيلية. فهي تتيح للإسرائيليين أن يبقوا قلب البقاع وجزءا من جبل لبنان ( هو الجزء الدرزي السني، أساسا) والجنوب كله، بما فيه صيدا والنبطية وصور، في متناول رشاشاتهم الثقيلة، ولا نذكر المدافع الكبيرة. أخيرا تصل هذه الرشاشات إلى جميع المخيمات الفلسطينية في المنطقة. ولا ننس أن الطريق الساحلي الذي يحاذي الساحل متجها نحو بيروت والشمال، يمكن أن يقطع في أي وقت ، وأن هذه أيضا حال الكثير من محاور المواصلات التي تستخدمها القوات السورية المرابطة في لبنان. موجز القول أن “المنطقة الأمنية” الجديدة تبدو، حين تقارن بما كانت عليه سنة 1978، وقد تحسنت كثيرا قيمتها الهجومية من جهة الإسرائيليين.

الحزام اليوم

رغم عودة الكثير من الأهالي إلى المنطقة الحدودية بعد اجتياح 1982، ( ارتفع عدد المقيمين في بنت جبيل، مثلا، بالتدريج، من حضيض ال400 إلى ما يقرب من 6000 ) فإن المنطقة، على الإجمال، لا تزال تخسر من سكانها. وتعد المنطقة اليوم 130000 إلى 150000 ساكن، هم نصف المقيمين فيها قبل الحرب، وهم ربع ما كان عدد هؤلاء سيصل إليه أو ثلثه، في أحسن تقدير، إذا احتسبنا نسبة النمو الطبيعية منطلقين من أرقام 1975. وبينما بدأ الناس يعودون إلى سائر المناطق اللبنانية، لم يكن لعهد السلام الجديد من وقع على المنطقة الحدودية الواقعة تحت حكم إسرائيل وجيش لبنان الجنوبي. فهناك ظلت الهجرة متصلة لا تعرف الهدوء، وهي، في معظم الحالات، هجرة دائمة: إلى الولايات المتحدة وأستراليا وكندا وإلى أقطار أخرى.

ويهاجر الناس لأسباب عديدة. وبين أهمها مناخ الشبهة الغالب والشعور بأنك تحت المراقبة والحاجة إلى ضبط الحديث بحيث يبقى في النطاق الضيق لما هو مأذون به من آراء، وحدها الأقصى، على ما يظهر، القول بأفضلية السلطة اللبنانية. وتنتشر المخابرات الإسرائيلية في كل مكان، عبر شبكة مخبريها المترامية. وقد أثبتت هذه الشبكة فاعلية لا جدال فيها بحيث أن العمليات في المنطقة، وهي كانت نادرة على الدوام، قد أصبحت، منذ إنشاء “المنطقة الأمنية”، رسميا، في سنة 1985، أندر بكثير من ذي قبل. فإذا وضعنا جانبا عمليات التسلل من خارج المنطقة، فإن ما أنشىء من خلايا المقاومة في الداخل، جرى تفكيكه بانتظام، وأرسل المقاومون إلى معتقل الخيام. وما يزال معظمهم هناك.

أمر آخر له أهميته أيضا هو العزلة التامة عن سائر مناطق البلاد وشعورك بأنك محتجز بين آفاق ضيقة خانقة. فحدود “المنطقة الأمنية” التي يعلن بأعلى الصوت أنها غير رسمية هي، في الواقع، حاجز أصعب اجتيازا من الحدود بين معظم الدول ذات السيادة. فالأسلاك الشائكة تكلل كلا من المعابر الثلاثة أو الأربعة ومراكز المراقبة التي ترصد منها كل حركة تنتشر على خط الجدود وحقول الألغام حيث تجعل تضاريس الأرض مهمة المراقبة مستصعبة. والتصريح بالدخول لغير المقيمين، يجب أن يطلب عند المعابر التي أصبح يضبطها اليوم جنود جيش لبنان الجنوبي وحدهم، إجمالا، بدلا من الوحدات المشتركة بينهم وبين الإسرائيليين التي كانت تتولى الأمر في سنوات الاحتلال الأولى. وهذا التصريح قلما يحصل عليه طالبه. حتى أن الذين يطلبونه، من خارج المنطقة، قلائل أصلا، إذا استثنينا المنتسبين إلى منظمات دولية من قبيل اليونيسف والصليب الأحمر وغوث الأولاد… وأما الذين ما يزال أفراد من عائلاتهم يقيمون في المنطقة، فيسمح لهم بالدخول عادة وإن يكن خطر الاعتقال قائما والذين يرسلون إلى سجن الخيام ليس عددهم بقليل. وقد مضى عهد كان على الأهالي المقيمين في المنطقة أن يحصلوا فيه على تصريح للعودة إليها. وأما اليوم فالقاعدة السارية تقضي بالحصول على تصريح لمغادرة المنطقة.

هذا والفساد مستشر. وكل ما قد يحتاج المرء إلى القيام به في المنطقة الحدودية، من بناء منزل إلى الحصول على أي تصريح أو ترخيص، يقتضي موافقة جيش لبنان الجنوبي. وما تزال الدولة اللبنانية هي التي تمنح الرخص، شكلا، ولكن لا ينفذ شيء من غير إرادة جيش لبنان الجنوبي، ولا شيء ينفذ من غير رشوة. كذلك سمح الإسرائيليون وجيش لبنان الجنوبي لحفنة من الأفراد بممارسة احتكار فعلي لتجارة بعض المواد، فمكنهم ذلك من جمع ثروات طائلة.

وعلى الصعيد الاقتصادي، تبدو المنطقة الحدودية مغلقة، عمليا. لا حاجة إلى القول إنه لا يؤذن لأي من سلعها أو منتجاتها بدخول إسرائيل، لئلا ينافس المنتجات الإسرائيلية. وتوجد أيضا قيود صارمة على “التصدير” إلى سائر النواحي اللبنانية، إذ يجب الحصول من جيش لبنان الجنوبي على أذون خاصة تقتضي مساعي صعبة ويجب دفع رشاوى وأتاوات وضرائب. وحتى عهد قريب، كانت السلع تواجه، بعد خروجها من المنطقة المحتلة، صعوبات في إكمال الطريق إلى بيروت،من قبيل عمليات التفتيش المتتالية والأتاوات في جميع الدويلات التي كانت تهيمن عليها مليشيات مختلفة لا يوحد بينها إلا الحذر من كل شيء مصدره المنطقة المحتلة (فيحتمل بالتالي أن يكون مصدره إسرائيل.) تتآزر الاعتبارات العملية كلها، إذن، لجعل السوق الوحيدة المتبقية للمنطقة الحدودية هي السوق الداخلية، وهذه ضيقة للغاية. عليه نرى الأعمال التي كانت قائمة من قبل – ونذكر منها صناعة الأحذية المهمة التي كانت تلبي، لا السوق اللبنانية وحدها، بل طلب أقطار عربية عدة للأحذية العسكرية، ونذكر صناعة الفخار و مشغولات القصب من حصائر وسلال، ومنتجات الحياكة والتطريز- وقد آلت كلها إما إلى الاندثار أو إلى الانتقال نحو صور أو بيروت حيث يسعها الاستمرار على نحو أقرب إلى المقبول.

ويلاقي “استيراد” السلع صعوبات مشابهة أيضا. فلما كانت جميع السلع المصنوعة ومعظم المنتجات الزراعية، بما فيها اللحم، يجب أن يؤتى بها من الخارج، فإن غلاء الأسعار فادح. وتتعرض المنتجات والسلع القادمة من شمال البلاد إلى أنواع كثيرة من التقييد. فههنا أيضا، يجب الحصول على إذن، وتخضع المنتجات لضريبة ثقيلة وتفرض قيود صارمة على عدد السيارات، من شاحنات وسيارات أجرة، التي يؤذن لها بالدخول. في المقابل -ولا مفاجأة في هذا- لا قيود على البضائع القادمة من إسرائيل، ولكن الناس يجتنبون، إجمالا، شراء المنتجات الزراعية الإسرائيلية التي يجدونها رديئة النوعية.

في الوقت نفسه، نجد أن زراعة التبغ -وهي كانت المصدر الأول لمعاش المنطقة- قد تراجعت كثيرا بعد 1976. هذه الواقعة، ومعها الضائقة الاقتصادية الناشئة عن عزلة المنطقة الإجبارية، أسفرتا عن وضع اقتصادي بالغ الركود. ويتعاطى أكثر الأهالي العمل اليدوي (البناء، مثلا) والتجارة الصغيرة والزراعة المكرسة، في كثير من الحالات، للتموين العائلي، وإن تكن زراعة الخيام قد أدخلت، مؤخرا، لتلبية حاجات السوق المحلية. ولا يزال آخرون – من معلمين وموظفين محليين- يعيشون من رواتب تدفعها لهم الدولة اللبنانية. ويوجد مصدر آخر للدخل أضرت به كثيرا أزمة الخليج، هو تحويلات الأهل الذين يعملون في الخارج.

هذا ولا يؤذن للمقيمين في “المنطقة الأمنية” بالعمل في سائر الأراضي اللبنانية، وراء تخوم هذه المنطقة. ولكن 4000 شخص إلى 5000 ينقلون، كل يوم -وقد سبقت الإشارة إلى هذا – إلى إسرائيل ومنها، عبر نقاط عبور عدة محددة سلفا، وتعطى الأولوية لأفراد عائلات الجنود في جيش لبنان الجنوبي. وهم مستخدمون هناك في قطاع الخدمات، بخاصة، أي، مثلا، في المقاهي والفنادق والمطاعم. ويعمل بعضهم في الزراعة ويعمل العدد الأقل في الصناعة. ويسع المقيمين في المنطقة أن يحصلوا على أذون مؤقتة بالسفر إلى إسرائيل. ويذهب كثير منهم إلى تل أبيب للحصول على تأشيرات سفر إلى بلدان أغلقت قنصلياتها في بيروت. والمفارقة أن منح اللبناني التأشيرة في تل أبيب أسهل منه في بيروت أو في دمشق، لأن القنصليات الغربية تعتبر مجرد وجوده في إسرائيل شهادة حسن سلوك. فوق ذلك، يغري كون خطوط العال الإسرائيلية أدنى أسعارا بكثير من كثير غيرها مسافرين كثرا بالسفر من تل أبيب إلى الغرب مع أنهم يجتهدون لإخفاء ذلك.

عالم من الالتباسات

من حصاد الاحتلال المر ما خلفه من ضرر بعيد المدى بالعلاقات بين الموارنة والشيعة، وهما طائفتان كانتا متداخلتين في نسيج واحد فخرّقته تركة ثقيلة من الخوف والكراهية من الجانبين. ففي الجهة المسلمة تمثل ذكريات التعديات التي ارتكبتها عناصر المليشيا المارونية، في أثناء اجتياحي 1978 و1982، وتمثل أيضا صور الإذلال الراهن بأيدي بعض العناصر المارونية من جيش لبنان الجنوبي. ومع أن معظم الشيعة يميزون العناصر الصالحة من الطالحة ويدركون جيدا أن التعاون مع المحتل ليس ظاهرة مسيحية حصرا ( وأن المتعاونين أقلية بين المسيحيين أنفسهم) فإن ذلك لا يحجب الغيظ الذي تشعر به أكثرية تتحكم بها أقلية منظور إليها على أنها تنفذ مآرب إسرائيل. وقد زاد من حدة الشعور بالانفصال، في السنوات الأخيرة، نشوء شعور إسلامي غذاه، في آن معا، الاعتزاز بالمقاومة الشيعية لإسرائيل والمرارة الطائفية. على أن العصبية الإسلامية تبدو الآن صائرة إلى تراجع في المنطقة، شأنها في مناطق أخرى.

وأما من الجهة المسيحية فيسود الإحساس بأن المسلمين انحازوا إلى الفلسطينيين فتسببوا بالحرب الأهلية، ولا يتغير الاعتقاد بأن أبصارهم لا تزال تتجه إلى سوريا أو إلى دول إسلامية أخرى. على أن هذه المشاعر لم تحل دون ظهور استياء من المعاملة المارونية لمسلمي المنطقة. ومن أمثلة ذلك أن رئيس بلدية عين إبل السابق ظل من سنة 1978 إلى حين وفاته، قبل سنوات قليلة، يأبى أن يزور بنت جبيل التي كان له فيها، لا عشرات بل مئات من الأصدقاء، والتي كان يلقى من كل واحد من أهلها الإعزاز والمحبة. وكان يعلن لكل من يهمه الأمر أنه أقسم لا يطأ أرض بنت جبيل، بعد اليوم، خجلا بما فعله هناك عناصر من قريته. هذا الشعور ليس بضعيف الانتشار بين صفوف المسيحيين.

ولا ريب أن احتمال سفك الدماء وارد إذا انسحب الإسرائيليون، ولكن لا على النطاق الذي شهده الشوف سنة 1983 حين رتب الإسرائيليون المواجهة بين الموارنة و الدروز ثم انسحبوا فجأة *. إلا أن ما أراه هو أن وجود قوة كافية في المنطقة، تعهد إليها بأمر الأمن، عند الانسحاب الإسرائيلي، سلطة مركزية حازمة، يسعه أن يمنع حصول أي مكروه. إذ لا يوجد غير حفنة من أعوان المحتل يكن لهم الأهالي بغضا عميقا، وهم الذين سال على أيديهم كثير من الدم. فالأهالي يميزون، في معظمهم، ما بين درجات التعاون المختلفة ويجدون لبعضها أسبابا تخفيفية تختلف باختلاف الحالات.

بعد كل ما حصل، انتشر في البلاد نوع من “مقت الغرباء” يتمثل في نوع الحساسية حيال جميع الأطراف الخارجية التي ضلعت في المأساة اللبنانية: من الفلسطينيين إلى السوريين إلى الإيرانيين. وخلافا لاعتقاد منتشر، نظر الشيعة، من البداية، إلى الإيرانيين على أنهم غرباء. وقد شدد الإيرانيون تكرارا على العلاقات التاريخية بينهم وبين هذه الطائفة، ولكن شيعة اليوم يجدون صعوبة في الشعور بالطرب لكون مشايخ منهم سافروا في القرن السادس عشر من جبل عامل إلى إيران لخدمة الأسرة المالكة هناك. صحيح أن تقليدا راسخا يجعل المشايخ، وخصوصا من كان منهم متحدرا من عائلات بعينها، يلقون الترحيب في أطراف العالم الشيعي كله، ولكن البون شاسع ما بين أفراد مترحلين من أهل التقى ومناضلين ترسلهم السلطة الإيرانية لإنشاء منظمات مسلحة.

هذا وينال الفلسطينيين القسط الأوفى من المرارة. فالجمهور، بطبعه، يؤثر لزوم جانب البساطة في تفسير الحوادث. والظاهر أن وظيفة الفلسطينيين اليوم هي أن يعتبروا الفريق الذي يفسر سلوكه ما جرى للبنانيين. والحقيقة أن الفلسطينيين ارتكبوا قدرا من الأخطاء كبيرا إلى حد يحمل المرء على القول، تقريبا، إنهم اختاروا أنفسهم لهذا الدور. وقد التقيت قبل سنوات قليلة، أثناء سفر إلى خارج لبنان، مسؤولا في منظمة التحرير الفلسطينية كان في لبنان، فبادرني بالقول: “لقد فعلنا ما فعلناه في لبنان ونعلم أننا أسأنا إليكم، ولكننا لم نقصد الإساءة. فلا ينبغي أن تؤاخذونا. كان الضرر الذي أوقعناه أشبه بنتيجة ثانوية، أشبه بحادث وقع.” لم أجب بشيء على الفور. ولكنني شعرت بالأسف، لاحقا، لأنني لم أقل له إن كلامه يجعل الأمور تبدو أشد سوءا. فقد كانت فحوى كلامه أن ما أوقعوه بنا من ضرر لم يستو عندهم موضوعا يستحق مجرد التأمل بحد ذاته. فالفلسطينيون لم يحسبوا حسابا قط، في الواقع، للجماعة اللبنانية، و لأهالي الجنوب، خصوصا. هم ركزوا اهتمامهم على عناصر من السكان مساندة لهم كانت تؤيد فتح جبهة في وجه إسرائيل -أي على أمثالي- ورفضوا أن يعوا فعلا أن هذا المسلك يؤول إلى الإضرار بالأهالي فضلا عن الإضرار بالفلسطينيين أنفسهم. كانوا يؤثرون تناسي الموضوع، في أحسن الحالات، واللجوء، في أسوئها، إلى صورة خرافية لموقف هذه الجماعة مؤداها أن اللبنانيين عرب ومسلمون مثلهم وأن روابط تاريخية تشدهم إلى فلسطين وأنهم يبغضون إسرائيل، وهلم جرا. على هذا أبى الفلسطينيون مجرد النظر في عواقب أعمالهم. والذين بقوا منهم في لبنان استخرج بعضهم العبرة مما جرى. وأما بعضهم الآخر فلاذ من ردود فعل الأهالي الرافضة بالإمعان البسيط في اللامبالاة.

على أنه يجب أن نضيف أن الشيعة، في ما يتعدى خيبتهم من الفلسطينيين وغضبهم عليهم، هم أول من يعرف سبب المحنة الأصلي. فهم كانوا منخرطين بقوة، من البداية الأولى، في المسألة الفلسطينية ولا يستطيعون أن ينسوا ما شاهدوه. ثمة أيضا مسألة متصلة بالهوية. يشبه الأمر أن تشحن العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة بالغيظ والضغينة، على نحو يسعه أن يفوق ما يحصل بين غرباء. حتى أن الأمر قد يصل إلى إراقة الدماء، ولكن العلاقة على مستوى الهوية لا يمكن أن ينالها تغيير. وذلك أنه يوجد، على صعيد ما، تعارف عميق لا يصاغ في كلمات ويعتبر معطى سلفا. تلك هي الحال بيننا وبين الفلسطينيين. بين هؤلاء والمسيحيين تبدو الأمور أشد تعقيدا : إذ عامل الهوية قائم، وإن يكن كثيرون يبدون راغبين في إنكاره. غير أن اختلاف الدين يضيف مستوى آخر ينطوي على احتمال التصادم. يبقى أن العلاقة بإسرائيل هي موضوع مختلف جدا حتى في حالة الموارنة. فالإسرائيليون أغيار وخارجيون على صورة لا يمكن أن تصح على الفلسطينيين أو على السوريين أبدا. إنهم “الغير” الجذري الذي لا رجعة في غيريته.

على التعميم، يمقت الناس إسرائيل، هنا، مسيحيين كانوا أم مسلمين. و يصح اعتبار هذا المقت عامل توحيد. ولم يكن ما ظهر من المسيحيين تعاطفا مع إسرائيل، وإنما كان حكم الضرورة. ويشعر المسيحيون أن إسرائيل اتخذتهم أداة لها. فهم سلموا للإسرائيليين بنوع من السلطان عليهم، وهم يعلمون أن الإسرائيليين يزدرونهم. وهم يعون أنهم قطعوا عن بلادهم وأن علامة استفهام ضخمة تحوم حول مستقبلهم. وهم يعلمون أيضا أنه لن يكون سهلا عليهم، بعد كل ما جرى بمبادرة وتشجيع من إسرائيل، أن يستأنفوا حياة طبيعية مع جيرانهم. ما يزال ذلك ممكنا، إلا أنه لن يكون سهلا. فإن شيئا ما قد ضاع أو انكسر.

وأما الشيعة فقد لاقوا على أيدي الإسرائيليين ما لم تلقه أية جماعة أخرى باستثناء الفلسطينيين. لقد رزح عليهم الاحتلال الإسرائيلي بثقله كله. فنفورهم من إسرائيل ليس مجردا أو أيدلوجيا، يستمدونه من مثل العروبة أو الحق والباطل. وإنما هو مستمد من اختبار حي للقصف والتنكيل والموت. فبعد أكثر من عشرين عاما مضت، بات للشيعة نزاعهم الخاص بهم مع إسرائيل. ولا يعني هذا أنهم مستعدون لفتح الجبهة مجددا، فهذا عهد ولى إلى غير رجعة. وإذا كان الناس يشعرون برضا في المناسبات النادرة التي يعلن فيها عن عملية للمقاومة تسببت في خسائر لجيش لبنان الجنوبي أو للإسرائيليين (بشرط أن تكون حصلت بعيدا عن قريتهم وألا تجر عواقب عليهم) فإن الأعم هو خفوت الحماسة للتنظيمات الشيعية والغضب حين تؤدي العمليات (زرع العبوات، مثلا،) إلى خسائر مدنية. فمن جديد السنوات الأخيرة انتشار الاقتناع بين الشيعة بأن إسرائيل لن تطرد بالقوة وأن الاحتلال لن يصل إلى نهايته إلا عبر مفاوضة سلمية.

وإذا كان يوجد من أمل لجنوب لبنان، فهو في هذه الرغبة العميقة الشاملة في عودة السيادة اللبنانية إلى هناك. ففي نهاية المطاف، يكاد لا يوجد أحد يجني فوائد حقيقية من الاحتلال، باستثناء حفنة من المنتفعين يتحكمون في تجارة المنطقة. وحتى جنود جيش لبنان الجنوبي وأولئك الذين وجدوا عملا في إسرائيل، يعرفون أنه كان يسعهم أن يجدوا عملا على أرضهم لو ان المنطقة لم تكن محتلة. لم يتقبل الناس الوضع القائم، على رغم الأعوام التي مرت. من هنا حماسة الأهالي، على اختلافهم، في التشبث بنتف شائعات تبشر بانسحاب إسرائيلي قريب، إذ يصدقونها ويجتهدون في بناء التفسيرات والنظريات لإسنادها. من هنا أيضا هذا الميل إلى أخذ كل حدث إقليمي أو دولي من جهة وقعه الممكن، حصرا، على احتمالات الانسحاب الإسرائيلي.

هل اللبنانيون متيامنون أم متشائمون بشأن حظوظ التسوية؟ يتوقف الجواب على اللحظة، على صورة الظروف الراهنة. فهم أحيانا متفائلون بالخير وأحيانا محبطون. على أن شأنهم، في هذا، هو شأن البشر جميعا، إذ الأمل هو الذي يغلب رغم كل شيء.

* في أثناء احتلالها جبل لبنان، أدخلت إسرائيل عناصر كتائبية ،إلى جبال الشوف وعززتها هناك. و الشوف منطقة كان يغلب فيها الدروز تقليديا (ويتجاور الدروز والمسيحيون) وكانت إلى حينه بين أقل المناطق اللبنانية تأثرا بالحرب الأهلية. وقد قتل نحو من ألف مدني في القتال المرير وفي المجازر المتبادلة التي تبعت انسحاب إسرائيل المباغت في أيلول 1983، بعد أن كانت قد أمدت بالسلاح الجهتين الكتائبية والدرزية كليهما.

* في أساس هذه المقالة حوارات أجرتها ليندا بتلر مع المؤلف في واشنطن في أواخر حزيران 1991. وقد نشرت المقالة في مجلة Journal of Palestine Studies, XXI, no 3 (Spring 1992), Berkeley, CA.. وتصدرها مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ونشرت أيضا ترجمتان عربية وفرنسية للمقالة في المجلتين الشقيقتين اللتين تصدرهما المؤسسة في بيروت وباريس. ولن يفوت القارئ أن يلاحظ أن في هذه المقالة تفاصيل تعريفية موجهة إلى القارئ غير اللبناني، وقد يستغني عنها القارئ اللبناني… وقد لا يستغني. ولن يفوته أن يلاحظ أيضا أن بعض التسميات والأوصاف تستغني عن الدقة التامة لصالح الإيجاز والوضوح. سيلاحظ القارئ أخيرا -في ما يتعدى الشكل- أن بعض التقديرات الواردة في المقالة -بما فيها الأرقام- هي بنت المرحلة التي كتبت فيها. وهذه مرحلة تلاها تحول واسع وعميق في المساق الذي افتتحه مؤتمر مدريد. هذا والترجمة المنشورة هنا جديدة من عمل المؤلف.

السابق
أ ف ب: الحكومة الأردنية تعتبر السفير السوري شخصاً غير مرغوب
التالي
فليتشر: فرصة انتخاب رئيس صنع في لبنان ما زالت قائمة