’مهنة المراهقين’ الأشهر في البقاع

إنها الرابعة بعد الظهر. سيدتان تنتظران على رصيف الحازمية. من المتوقع انهما تنتظران قدوم باص يقلهما. بعد ثلاث دقائق، باص صغير يقترب. في لبنان، يطلقون على هذا النوع من الباصات إسم “فان”. فجأة، صوت عالٍ يجتاح سكون المكان: “شتورا بعلبك… شتورا بعلبك”. من المفترض أن الصوت مصدره الفان. الفان يتوقف. مراهق ينزل منه، ويستمر بالصراخ: “شتورا… بعلبك”.

السيدتان تصعدان في الفان. المراهق يغادره، بعدما حصل على 5000 ليرة لبنانية، سيجارة، وصفعة على رقبته. ولكن، لماذا حصل المراهق على المال بدل أن يدفع؟ ولماذا إستقل باصاً آخر يتوجه نحو المنطقة نفها؟ أمر مثير للاستغراب!
بالنسبة الى الركاب الجدد، قصة المراهقين المتنقلين بين الباصات يشوبها الغموض. ولكن، للركاب الذين يتنقلون يومياً بين شتورا وبيروت، هي أمر عادي. المراهق هو سمسار، سمسار للركاب. مهمته بسيطة. مراقبة الطريق، إثارة انتباه المارة، وإصطياد المتوجهين نحو شتورا منهم، ومساعدتهم على إجتياز الطريق. ولكن، أحياناً، تتوسع صلاحيات الوظيفة، فيأخذ المراهق على عاتقه مهمة التفاوض على البدل كي لا يخسر الزبون. عندما يمتلئ الفان بالركاب، يستقل السمسار “فان مسكين آخر” بحاجة للمساعدة.
“إنها مهنة غريبة. غالبية الناس لا يعتبرونها مهنة، بل مصدراً للتسلية، أو على الارجح عذراً لمغادرة المدرسة. ولكن لا، كنت مرغماً على العمل لمساعدة عائلتي. تركت المدرسة في سن الثالثة عشرة لتبدأ مغامرتي في عالم الباصات”، اشار علي، سمسار الركاب.

فانات عبعلبك
في شتورا، إذا لم تسمع بعلي سابقاً، هذا يعني أنك مواطن غريب عن المنطقة. علي اليوم، واحد من أهم سماسرة الركاب في البقاع. “أتقاضى مبلغاً وفيراً من المال وهو الأكبر بين السماسرة. في كل يوم، أتنقل بين 15 فاناً على الاقل. أتقاضى 4000 ليرة ليرة من كل منها. أعود الى المنزل كل مساء مع 60000 ليرة” أضاف علي. البعض يصنف هذا العمل في خانة السهل، لكنه ليس كذلك. للفوز بالزبائن، يجب إتباع شروط عدة. “بداية، يجب أن تمتلك الثقة بالنفس. أحياناً، باصات عديدة تتنافس على كسب الزبون نفسه، والفوز يكون للسمسار الذي يمتلك حنكة وحضوراً قويين”، أوضح علي، ويواجه علي صعوبات جمة في عمله. أحياناً، السائق يتذمر، وكذلك الزبون عندما يرفض التدخين أو يطالب بمقعد مريح. مهمة السمسار هنا، تهدئته، والتفاوض مع الزبائن الآخرين للتوصل الى حل يرضي الجميع.
في لبنان، من النادر أن تصادف سمسار ركاب. إنها مهنة نادرة، توجد أكثر في البقاع، في شوارع بعلبك وزحلة وسعدنايل وشتورا واللبوة. كما ان انها موجودة بوتيرة خجولة في طرابلس. ولكن، ما هو اللغز وراء محدودية هذه المهنة؟ زيارة واحدة الى شتورا كفيلة بالإجابة. في تلك المنطقة، عشرات الفانات تمر كل دقيقة. كل منها يستوعب 13 راكباً. لكن عدد الركاب المتوجهين الى بيروت محدود، أما عدد الفانات فغير محدود. بحسب علي أكثر من 500 فان تعمل على خط البقاع الشمالي – بيروت، في اللبوة وحدها 22 فاناً، “إذاً المنافسة بين الفانات كبيرة. لكسب المال الوفير، على السائق أن يدفع القليل للسمسار. ولكن اذا كان عدد الركاب محدوداً، لماذا هذا العدد الكبير من الفانات؟
إنها البطالة التي دفعت البقاعيين الى شراء الفانات. كل من يملك، أو يستدين 10000 دولار، يشتري فاناً وبالتالي يؤمن معيشة عائلته. اضافة الى البطالة، تدفع الظروف المعيشية الصعبة مراهقي البقاع الى مغادرة المدرسة باكراً والعمل لإعالة العائلة. ففي دراسة قام بها باحثون اجتماعيون في جامعة القديس يوسف، تبين ان معدل التسرب المدرسي قد وصل في البقاع الى 40%. كما أشارت الدراسة الى أن معدل الأجر العام الذي يتلقاه الاولاد في البقاع بلغ 50000 لبنانية. إذاً بالنسبة الى المراهق، العمل كسمسار ركاب هو حلم جميل نظراً الى ارتفاع مدخوله.
في كل ليلة، يعود سمسار الركاب الى المنزل سعيداً، هذا طموحه، جذب أكبر عدد من المارة. بالنسبة اليه، صار نجماً، الكل يعرفه. والمارة هم من المعجبين الذين يركبون الفان بسببه. لكن الحقيقة مختلفة. الراكب يصعد في الباص، لأنه يريد الوصول الى المنزل. والسمسار يصعد في الباص، لأنه بحاجة الى المال، وبحاجة الى التغلب على شبح الفقر.

السمسار الأغلى ثمناً في عمالة المراهقين

مهنة نادرة، جديدة، وغريبة، مبدأها يقتصر على إختيار المراهقين كأسلوب جذب لركاب الفانات المتوجهة من البقاع واليه، المراهق يصطاد الزبائن على الأرصفة بحنكته، بسرعة وصوله الى الزبون، أو ربما ببراءته، المهم هو الفاعلية والسرعة في ملء الفان. أما حديث الأرقام فيكشف خبايا تتعدى حدود زبائن الأرصفة. فبحسب نظام موقف الكولا في بيروت، التابع لفانات البقاع الشمالي، فانه يستقبل يوميا أكثر من 100 رحلة مشروعة، وقد أطلقنا عليها صفة “المشروعة” لوجود فانات خصوصية تعمل في إطار الوجهة نفسها لا يحق لها التوجه الى الموقف، اضافة الى مواقف اخرى نقالة يستخدمها السائق وفقاً لحركة الركاب. بالتالي، وبحسب دوام عمل الفانات، الذي يبلغ 15 ساعة يوميا، من الـ5 صباحاً الى 9 مساء فان متوسط عدد سماسرة الركاب يبلغ 26 سمساراً، غالبيتهم من المراهقين، يتنقلون بين 11 باصاً مع متوسط أجر يومي يبلغ 40000 ليرة لبنانية، بحسب “القانون الشعبي” للفانات، الذي يحدد أجر السمسار بـ4000 ليرة كحد أقصى للفان الواحد.
وإذا قارنا متوسط أجر “السمسار المراهق” اليومي مع المتوسط العام لأجر المراهق الأسبوعي، بحسب دراسة لجامعة القديس يوسف، يتبين ان متوسط معدل الأجور التي يحصل عليها الاولاد العاملون اسبوعياً يبلغ 50 ألف ليرة (33,24 دولاراً اميركياً) في منطقة البقاع. بذلك تعتبر مهنة سمسار الركاب حلماً لكل متسرب مدرسي يبحث عن عمل إذ قد يصل المتوسط العام الأسبوعي لأجره الى 210000 ليرة… وبحسب الدراسة عينها، التي شملت 1007 اولاد يعملون، وتراوح أعمارهم بين الخامسة والسابعة عشرة، بما في ذلك 38 مقابلة معمقة مع اصحاب عمل في مناطق البقاع بغية كشف النقاب عن الخصائص الديموغرافية والظروف الاقتصادية والاجتماعية للأولاد العاملين، وأنواع الاعمال التي يقومون بها، وعواقبها على تنميتهم الاجتماعية والبدنية والفكرية، تبين ان غالبية الاولاد يعملون في الزراعة او الصناعة. وتحدث معظم حالات التسرب المدرسي بين 10 الى 16 عاما لتبلغ ذروتها في عمر الثالثة عشرة. في السياق نفسه، أشارت الدراسات الإحصائية التي يجريها المركز التربوي للبحوث والانماء عن الاوضاع المدرسية ان نسبة التسرب المدرسي في الاعوام العشرة الماضية، بلغت معدل 4,12% في البقاع وهي أكبر ثاني نسبة في لبنان بعد الشمال. كل ذلك يدفع الى الشك في ان مهمة سمسار الركاب ابتكرت عن غير قصد ربما.

السابق
بري دعا الى جلسة عامة الثلثاء
التالي
الصراع السوري وإعادة انتخاب الأسد: ماذا ستفعل أميركا الآن؟