الزيارة «المشتعلة» بين «فلسطين» و «إسرائيل»

عندما نضج الحبر بين أصابعنا أوصانا أبي: إيّاكم وكتابة “إسرائيل” باللغة العربية. سمعنا الوصية. عملنا بموجبها، وتابعنا نكتب مثل آبائنا: فلسطين. كانت “إسرائيل” من المحرّمات. يكفي تصفّح نصوص العروبة القديمة لتأكيد هذا التحريم. وفي حقبة معاصرة من التاريخ المهادن لسياسات بعض العرب، راحت الأقلام تنصاع بكتابتها لتسمّيها “فلسطين المحتلّة” أو “العدو الإسرائيلي” أو “المغتصب الإسرائيلي” أو تضعها في مرحلة متقدّمة من الإنحدار هكذا بين قوسين: “إسرائيل”. بعد  كامب دايفيد وسفارتها في القاهرة ثمّ غزوها لبيروت، سقط هذا التحريم اللغوي وانسحب نوعاً ما على الأقفاص النفسية والسياسية، وسقطت معه بعض الصفات السلبيّة التي كان ينعت بها العدو الإسرائيلي. بتنا نقرأها في نصوص كثيرة من دون القوسين ولربّما نجدها بعبارة دولة إسرائيل كباقي الدول، لتتحوّل المرحلة الحالية الى “الدولة اليهودية” عنواناً خطيراً في زمن التفتيت وتلويحات السلام المستحيل لكنّه الموشّى بدماء العرب والمسلمين وإستراتيجيات التطبيع والتنازلات.

لماذا هذه المقدّمة؟ لسببين أو لنوعين من “الإشتعال” السياسي المتشابهين.
1- “الإشتعال”الأوّل يرجعنا الى بدايات هذا العام في الكلام المنسوب الى البابا فرنسيس الأوّل حول نكرانه الخطيئة أو الذنوب والعقاب أو جهنم والجنة أو قصة آدم وحواء وغيرها من القضايا التي أثارها أوجينيو سكالفاري أحد المثقفين الإيطاليين البارزين بعد لقائه رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم.

من يقرأ نصّ المقابلة التي جاءت بعنوان:” ثورة فرنسيس . . لقد ألغى الخطيئة رسمياً” وبعض التعليقات التي نشرت حولها يدهش الى نوعين من الإشتعال الفكري اللذين حصلا في العالم: الأوّل نجده في بعض ردود الفعل السلبية على المقابلة التي وصلت الى حدود وصم ما ورد فيها بالتجديف  le canular، والثاني نجده في النصوص الإيجابية التي هضمت ما ورد في المقابلة، لكنّ الفاتيكان الرسمي أطفأ الإشتعالات يومها عندما اعتبر أنّ ما نشره الكاتب الإيطالي هو نوع من “الإستنتاج الشخصي والمحرّف” لكلام البابا.

ولقد أعلن البابا فرنسيس الأوّل، بعد وقع كلامه المحرّف وهدأة الحبر، بأنّه سيقوم بزيارة الأراضي المقدسة في 24 و26 مايو/أيار وتحديداً الى عمان وبيت لحم والقدس، ومنح لهذه الزيارة عنواناً لافتاً هو:”بالمحبّة نواجه التطرّف”. قد يجوز الربط والتفكير ولو للحظة بين ما أورثه كلام البابا ومعنى إعلانه بعد ذلك مباشرة عن موعد الزيارة.  ويستأهل عنوان زيارته البحث عن آليات مواجهة المتطرّفين بالمحبة تذكيراً بمقولة” من ضربك عل خدّك الأيمن فدر له الأيسر”، لكنّ الزيارة كانت لا تتجاوز زيارة الحج التقليدية التي يقوم بها باباوات الفاتيكان مرّة واحدة إلى فلسطين. الى فلسطين؟

نعم إلى دولة فلسطين كما لفظها فرانسيس الأوّل في فبراير/شباط 2013 . وليس الى “إسرائيل” أو الى فلسطين المحتلّة أو غيرها من التسميات. كان البابا الأوّل في تاريخ الكرسي الرسولي الذي قالها جهاراً بعد اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين كدولة مراقب غير عضو في المنظمة الدولية، بعدما دعا بعمق إلى ترسيخ الحوار مع المسلمين. وخلافًا للقانون الكنسي والتقليد، قام البابا بغسل الأرجل لدزينة من الأشخاص وتقبيلها وبين هؤلاء إثنان من المسلمين. وهذه لمح عالية القيمة والمعاني من بابا رومية لا تمنع من الإشارة أيضاً بأنّ له، منذ كان رئيساً للأساقفة، علاقات وثيقة جدّاً مع اليهود في الأرجنتين، وقد يكون البابا الأوّل الذي حضر علناً صلوات يهودية في كنيس بيونس آيرس في العام 2007 ، لكنّ الخلفية التقشّفية لشخصيته التي تظهّرت تباعاً منذ 13 مارس/آذار 2012 جعلته رمزاً بارزاً في التيار الإصلاحي للكنيسة التي لا يريدها سوى “كنائس فقيرة، وتدافع عن الفقراء والسلام في عالم تتقاذفه الحروب والمآسي”، كما قال.

2- “الإشتعال” الثاني يشهده لبنان الرسمي والشعبي فورالإعلان المفاجيء عن زيارة يقوم بها بشارة الراعي رأس الكنيسة المارونية الى فلسطين، عفواً الى” إسرائيل” المرتاحة والتي نشهدها تعمّم بؤساً وتهجيراً وخراباً وتطبيعات خفيّة على عواصم العرب الكثيرة الرازخة تحت تداعيات نزف “الثورات العربيّة” التي نضعها كما” إسرائيل” بين قوسين في هذا الزمن الثقيل من تاريخ المنطقة العربيّة. هناك في فلسطين رعيّة مارونية ولهم بطريركية في القدس أسّست في جبل صهيون بمحاذاة برج داوود آوت الموارنة الذين فرّوا من لبنان إثر المذابح الطائفية في العام 1860، وهناك راعٍ هو البطريرك اللبناني بشارة الراعي منخرط في عضوية مجامع الفتاتيكان وهو ما لم يصله كاردينال مشرقي قبله، لكنّ الزيارة لزمانها ومكانها تبدو تخطف من شخصها البريق العربي إذ تجعله مثار أخذ وردّ.

هذا ” الإشتعال” نراه نامياً ويستقطب إنتباه اللبنانيين والعرب بعدما كان منصبّاً على الإستحقاق الرئاسي المحكوم بالفراغ، ليتحوّل الإنقسام حول الزيارة سواء أجاءت برفقة البابا أو بهدف إستقباله على رأس رعيّته من الطائفة المارونية في” إسرائيل”. صحيح أنّ مسألةً مستقبل مسيحييي الشرق قد برزت الى العلن وامتشقها البطريرك الراعي في تطوافه الملحوظ في أعقاب النكبات التي أصيب ويصاب بها هؤلاء في العراق وسوريا وصلت الى حدّ خطف مطرانين في سورية إختفوا وكأنّ الأرض انشقّت وبلعتهم وصحيح أنّ المسألة تنعكس على مسيحيي الشرق ولبنان في شكلين: إمّا الهجرة وإدارة الظهر للعروبة والنهضة والمقاومة والشرق وإمّا التصلّب في النبرة المسيحية في بلدٍ مشحون طائفياً الى حدود إنقطاع الوتر الوطني، ولكنّ الصحيح أيضاً وأيضاً أنّ ما يحصل في سوريا والعراق ولبنان يحصل أيضاً مع جميع المواطنين من الطوائف والمذاهب المختلفة المتنازعة المحكومة كلّها بالتفتيت والتراجع والإنحطاط. قد يكون بعض اللبنانيين المسيحيين قد نسوا في تهامسهم وإرتفاع نبراتهم المذهبية الى حدود المغالاة المقولة التاريخية التي نقشها أجدادنا في الرؤوس والتي تقول: المسيحيون هم أوّل من يفترض أن يعادي” إسرائيل” ويقاتلها قبل كلّ العرب والمسلمين وهم آخر من يوقّع معها الصلح بعد كلّ العرب والمسلمين.لا نغالي إن قلنا بأنّ لبنان غارق بين “إشتعالين” واحد يرى في الزيارة كسراً للحصار وإحتضاناً للقدس وطعناً للتهويد وتحدّياً ل”إسرائيل” في عقر دارها وكشحاً للتطبيع وواحد رافض وممتعض وحسّاس وحريص على بقايا المسيحيين ووحدتهم مع المسلمين في زمن الإرهاب والمتطرّفين. إشتعالان يستحضران الصراع العربي- الإسرائيلي بسلبياته ونكباته وتوصيفاته المتناقضة، خصوصاً وأنّها واقعة في ذكرى تحرير الجنوب اللبناني.
وفي إنتظار الحسم المرجّح للزيارة، نربط “الإشتعالين” لنرى أنّ بابا رومية ولو أعلن منذ شهرين بأنّه ذاهب الى فلسطين لكنّه ذاهب الى “إسرائيل” التي تخرج القوسين من حول عنقها لتخنق بها المسلمين والمسيحيين على السواء.

السابق
الراعي لن يستسلم ويقبل بتطبيع الفراغ القاتل والتعايش معه
التالي
فيلم ’النبي’ لجبران من إنتاج سلمى حايك