لا بد من موجة ثانية للثورات العربية

كل من ينظر إلى مشهد الإنتخابات في العراق ومصر والجزائر وسوريا ولبنان، يرى مجتمعات موقوفة في السياسة، أو أن السياسة موقوفة على الإرهاب والإرهاب المضاد. وهي مجتمعات ممتنعة أصلاً عن أن تكون مجتمعات. فهي تعيش إعاقات تتراوح بين الاستبداد المفرط والانقسام إلى عصبيات متنابذة، ترسّخ الشكوك العميقة في شرعية الدولة، مهما كان نظامها، كما في شرعية الرابطة الوطنية نفسها. ولأنها كذلك، فهي تقع إما أمام خيار الموات الصامت عبر تجديد الإستبداد، أو الموت الفادح عبر الانخراط في الحروب الأهلية المديدة، أو الرهان على «استقرار» قاتل يأتي على ظهر دبّابات الجيش وتحرسه أقبية الأمن.

الإنحراف الحاد الذي بدأ منذ مطلع الخمسينات، حين تم تقويض الجمهوريات والملكيات، واستيلاء الزمر العسكرية على السلطة، راكم على امتداد أكثر من ستين عاماً انفصالاً واغتراباً بين الرعايا والدولة، فيما الأخيرة باتت مجرد أداة تسلط ونهب وقهر، متعالية عن أي محاسبة وممتنعة عن مبدأ التداول والتغيير.

أدى هذا إلى تأصل عداوة عميقة بين أولئك الرعايا والدولة، ويأس تام من تجربة «الدولة الوطنية»، وارتداد إلى هويات سابقة، دينية وطائفية وإثنية وقبلية، مع فشل ذريع في ولادة المواطن الفرد، المسؤول وصاحب «الإرادة الحرة»، أي الناخب والفاعل والحر.

وبدوره أدى العطب التاريخي المتمثل بالفصل بين إرادة التحرر الوطني وأولويّة الحريّة التي تمهّد الطريق إلى الديمقراطيّة والتقدم، إلى فشل عميق في المجالين. وهو فشل، علاوة عن تعزيزه الطغيان، أفضى كذلك إلى اغترابنا عن العالم وإلى معاداة له فاقمت تخلفنا وحيرتنا بهذا العالم.

نتج عن هذا التاريخ دول فاشلة ومجتمعات مأزومة، كانت بادرة انهيارها في «اللبننة»، أي في ذاك المزيج من الحرب الأهلية الطائفية والحروب الإقليمية الدولية، ثم في «الصوملة» التي جعلت من الفوضى الدموية والعبثية نموذجاً مستعصياً عن أي حل سياسي، لتضمحل الدولة ومؤسساتها تماماً.

وكان لتعاظم خطر الفوضى والحروب وانبعاث الإرهاب المعولم، أن ألقى عبئاً هائلاً على العالم، إذ أن تجربة الغزو العراقي للكويت، أظهرت فداحة الخطر الذي تشكله الأنظمة الشبيهة بنظام صدام حسين، كما فداحة اغتراب شعوب المنطقة عن قيم الحرية والعدالة والمساواة والتسامح، ويأسها من المستقبل، إلى حد أن النقمة الشديدة لهذه الشعوب على أحوالها وعلى فداحة التمييز الإجتماعي وقسوة الأنظمة، مضافاً إليها المخاوف العميقة والصدمة الناتجة عن «العولمة»، وأثر الأصولية الدينية المتنامي بعد الثورة الخمينية في إيران، وتداعيات الحرب «الجهادية» في أفغانستان… أدت كلها إلى ولادة «الإرهاب العالمي»، الذي سيعلن عن نفسه في 11 أيلول 2001، بوصفه تهديداً شاملاً للعالم كله، علاوة عن مباشرته في هدم الكيانات السياسية القائمة، ودفع مجتمعاتها إلى أتون حرب أهلية دينية لا نهاية لها.

إزاء ذلك، انطلقت مغامرة عسكرية أميركية، تحت شعار «بناء الأمم»، مهمتها مستوحاة من مبادئ ويلسون (1918)، في أفغانستان والعراق: إرساء حكومات منتخبة وأنظمة ديموقراطية. فكان لهذه العودة إلى فكرة «الإنتداب» والوصاية الأجنبية، نتائج وخيمة، وفشلاً هائلاً فاقم من حدة انهيار الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، وسرّع من التشرذم الإجتماعي والفساد، وغذى الإرهاب، ودمر المقومات الإقتصادية والبنى التحتية، وزاد من مشاعر العداوة للعالم ولـ»العولمة»، وأجج الإنقسامات الأهلية وحروبها المتعددة. هكذا ولدت «العرقنة» و»الأفغنة».

بعد عقد من هذا الإنسداد السياسي، المضاف إليه عوامل كثيرة، منها الزيادة الهائلة للسكان وتفشي البطالة وفشل التنمية المستمر، واكتظاظ المدن بعشوائيات البؤس وخراب الأرياف، وفجور النخبة الحاكمة وتغولها في النهب وفي القمع.. بل وبعد قرن من التمنع عن الحداثة وعن مسار العالم، انفجر ضغط اليأس في ثورات، حملت الأمل أخيراً، طالما أن طليعتها كانت من أولئك الشبان من الجيل الجديد الباحث عن الخلاص، رافعاً مطلب الحرية والعدالة. لكن، وبعد ثلاث سنوات على اندلاع الإنتفاضات، ورغم سقوط رموز الإستبداد في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن، إلا أن انتفاضات أخرى تم إخمادها في مهدها: الجزائر والسودان والعراق والبحرين. فيما كان مصير الثورة السورية هو الأسوأ بتحولها إلى حرب شاملة بالغة العنف والوحشية. وإذا استثينا تونس حتى الآن، فإن حصاد «الربيع العربي» يتراوح بين إعادة انتاج النظام القديم كما في مصر، والفوضى كما في ليبيا واليمن، والحرب المدمرة كما في سوريا.. ويضاف إلى هذا الحصاد تضاعف كل ما كان سابقاً على الثورات من أزمات ومشكلات وتصدعات واستبداد.

بمعنى آخر، أفضى هذا التاريخ إلى جملة كوارث، إذ بات واضحاً، خصوصاً في المشرق العربي، أن حدود الدول لم تعد موجودة عملياً، فيما الزلزال الديموغرافي الذي سببته موجات التهجير والنزوح وحروب التطهير الطائفية والمذهبية، فرض حدوداً بين الجماعات، لا بين الكيانات فحسب، وتبددت سيادة الدولة الوطنية وغابت شرعيتها تماماً، ما يحتّم التساؤل عن مدى صلاحية تلك الخريطة التي استمرت نحو مئة عام، أي منذ «سايكس بيكو»، حتى ليبدو كل «تعايش» قسرياً ويقوم فقط على القهر والغلبة والظلم الشديد. ومن المستبعد في ضوء عجز هذه المجتمعات عن توفير الحد الأدنى من اللحمة الوطنية والسلم الأهلي، وبناء على نتائج التدخلات العسكرية في الماضي، أن يوفر الخارج أي حل وأي تسوية في المدى المنظور.

مع ذلك، وبحثاً عن خلاص بعيداً عن أوهام العودة إلى «استقرار» الماضي، بات من الملحّ التأكيد على صوابية ما طرحه شباب الثورات العربية، لكن بإصرار على أن طلب الحريّة والديموقراطيّة بقدر ما هو ضد الأنظمة السياسيّة المستبدة، هو أيضاً ضد المنظومة القيمية والأخلاقية التي تفرضها سلطات الفقه الديني، بوصفها القاعدة التي سهّلت الاستبداد السياسي ومدَّته بأسباب بقائه وتجديده مراراً وتكراراً. وتجنباً لإعادة انتاج الإستبداد، لا بد أن يكون مبدأ حرية المعتقد وحرية الضمير على رأس شرعة الحريات العامة والفردية ويقف في مقدّمها. كذلك لا بد من التجرؤ والتساؤل حول الحدود والهويات الوطنية وفق مبدأ «حق تقرير المصير». وهذا ما نحسبه في مستقبل «الموجة الثانية» من الثورات الآتية لا محالة.

السابق
اخماد حريق في بلدة كفرجرة الجنوبية
التالي
ابو غيدا أصدر القرار الاتهامي بتفجيري طرابلس وطلب الاعدام لـ11شخصا