الشيخ محمد عبده: متى وَلِعَ المسلمون بالتكفير والتفسيق؟

هذا النص مأخوذ من كتاب “الإسلام دين العلم والمدنية” للشيخ الإمام محمد عبده، (أحد أبرز أعلام النهضة ومن المجدّدين في الفكر الإسلامي. ومفتي الديار المصرية في العام 1899) والأرقام الواردة في السياق تشير إلى صفحات الكتاب.

متى وَلِعَ المسلمون بالتكفير والتفسيق، ورَمْي زيد بأنه مبتدِع وعمرو بأنه زنديق؟

إن ذلك بدأ فيهم عندما بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله، وتصدَّر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحُه بروح الدين، وأخذ المسلمون يظنون أن من البِدْع في الدين ما يَحْسُن إحداثه لتعظيم شأنه، تقليداً لمن كان بين أيديهم من الأمم. وأنشأوا ينسون ماضي الدين ومقالات سلفهم فيه، ويكتفون برأي من يرونه من المتصدِّرين المتعالمين. وتولَّى شؤونَ المسلمين جُهَّالُهم، وقام بإرشادهم في الأغلب ضُلاَّلُهم. في أثناء ذلك حدث الغلوُّ في الدين، واستَعَرت نيران العداوات بين النُظَّار فيه، وسهل على كل منهم لجهله بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب، وكلما ازدادوا جهلاً بدينهم ازدادوا غلوّاً فيه بالباطل ودخل العلم والفكر والنظر (وهي لوازم الدين الإسلامي) في جملة ما كرهوه، وانقلب عندهم ما كان واجباً من الدين محظوراً فيه. (ص165).

هل وقف الجهل بـ(بعض) المسلمين عند تكفير من يخالفهم في مسائل الدين أو يذهب مذهب الفلاسفة أو يقرب من ذلك؟ لا، بل عدا بهم الجهل على أئمة الدين وخَدَمة السنَّة والكتاب! فقد حُملت كتب الإمام الغزالي إلى غرناطة، وبعدما انتفع بها المسلمون أزماناً، هاج الجهل بأهل تلك المدينة وانطلقت ألسنة المتعالمين من البربر بتَفْسيقه وتضليله، فجُمعت تلك الكتب، خصوصاً نُسَخ “إحياء علوم الدين”، ووُضعت في الشارع العام وأُحرقت! وقال قومٌ في ابن تيميَّة – وهو أعلم الناس بالسنَّة وأشدُّهم غيرة على الدين – إنه ضالٌّ مُضِلّ! (ص 166).

(إن أصلاً ثابتاً من أصول الإسلام هو) البُعد عن التكفير. هلاَّ ذهبت إلى ما اشتُهر بين المسلمين وعُرف من قواعد أحكام دينهم وهو: إذا صدر قولٌ من قائلٍ يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر! فهل رأيتَ تسامحاً مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟! (ص99).
لم يَدَعِ الإسلامُ لأحد، بعد الله ورسوله، سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرةً على إيمانه. على أن الرسول عليه السلام كان مبلِّغاً ومذكِّراً لا مهيمناً ولا مسيطراً. قال الله تعالى: “فذكِّر، إنما أنت مذكِّرٌ، لستَ عليهم بمسيطر”، ولم يجعل لأحد من أهله أن يحلَّ ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه في ما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفع عنه كل رقٍّ إلا العبودية لله وحده. وليس لمسلم، مهما علا كعبه في الإسلام، على آخر، مهما انحطَّت منزلته فيه، إلا حقّ النصيحة والإرشاد. قال تعالى: “ولتكنْ منكم أُمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”. وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبَّع عورة أحد، ولا يسوِّغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسّس على عقيدة أحد، وليس يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسُنَّة رسوله. (ص101 – 102).

لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام ورسوله، بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف. وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصّل من وسائله ما يؤهِّله للفهم، كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها، وأحوال العرب خاصة في زمان البعثة وما كان الناس عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار. فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يُعدّه لفهم الصواب من السنّة والكتاب، فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما، وله، بل عليه، أن يطالب المجيب بالدليل على ما يجيب به، سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أم في حكم عمل من الأعمال. فليس في الإسلام ما يسمّى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. (ص102).

…وعلمتَ أن ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خوّلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خوّلها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم.
يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني، أفلا يكون للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام؟… وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدّعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو يتنازعه في طريق نظره. (ص105).

السابق
سرقة اجهزة كومبيوتر وادوات مكتبية
التالي
فيصل كرامي طلب من النيابة العامة اعتبار تصريح الضاهر بمثابة اخبار