الحرية بين «موت الله» وعبوديته

الحرية بين "موت الله" وعبوديته
وفكرة "موت الله" إذا كان تعميمها غير دقيق على الفكر الغربي، فإنّ تجليّاتها على صعيد النظم السياسية والاجتماعية التي تقوم على عدم العلاقة بين الله والعالم تكاد تكون شاملة، ولعلّ أبرز مظاهرها – كما تعكس ذلك الفلسفات والفنون والآداب الغربية – في هذا الصراع الذي يخوضه الإنسان الغربي لانتزاع حريته من الله، بما يعني أنّ الانسان الغربي وجد أزمته تكمن في عبوديته لله فاطلق شعارات التحرر من هذه العبودية وصولا الى اعتبار الانسان هو الإله.

رغم أنّ تعميم النزعة المادية على الفكر الغربي هو تعميم يفتقر إلى الدقة العلمية، ففي الغرب فلسفات مادية ومثالية ولاهوتية، إلاّ أنّ النزعة المادية باتت سمة مميّزة للمجتمع من حيث قيّمه. هنا هو مفهوم الحرية كما تجلّى في هذه النزعة، فالفكر الغربي الحديث – إلى جانب عناصر أخرى – محكوم لثورتين قام بهما: الثورة السياسية الفكرية ضد الكنيسة والإقطاع، والثورة الصناعية. وفي غمرة هذا الإنجاز تعزّزت في وجدانه فكرة “موت الله”. وهذه الفكرة ليست فلسفية، بحتاً، أي لم تتنزل من الفلسفة إلى السلوك العام، بل صعدت من انبهار العقل الغربي بإنجازاته إلى الفلسفة والآداب والفنون.

وفكرة “موت الله” إذا كان تعميمها غير دقيق على الفكر الغربي، فإنّ تجليّاتها على صعيد النظم السياسية والاجتماعية التي تقوم على عدم العلاقة بين الله والعالم تكاد تكون شاملة، ولعلّ أبرز مظاهرها – كما تعكس ذلك الفلسفات والفنون والآداب الغربية – في هذا الصراع الذي يخوضه الإنسان الغربي لانتزاع حريته من الله، بما يعني أنّ الانسان الغربي وجد أزمته تكمن في عبوديته لله فاطلق شعارات التحرر من هذه العبودية وصولا الى اعتبار الانسان هو الإله. وتحت وطأة هاجس الحرية حقّقت الحريات مستويات عالية في المجتمع الغربي لكنّها فقدت الهدف، أي فقدت المطلق – الله الذي يعطي لهذه الحرية معناها وهدفها، ونشأت آلهة أخرى من داخل الإنسان نفسه: الآلة، النظام، المال، اللذة الخ…

وأمام هذه العبوديات الجديدة الناشئة، كان لا بدّ للمجتمع الغربي أن يحتفظ بما تبقّى له من حريات، فيسعى إلى تثبيتها وتنظيمها وإكسابها طابع الثبات والقدسية، فكان تطوير مفهوم الديمقراطية والأخذ به مبدءاً ناظماً لهذه الحريات وحارساً لها. وقد اكتسب مبدأ الديمقراطية قدسيته الخاصة لدى المجتمعات الغربية خصوصاً لأسباب متنوّعة ثانوية وسبب رئيس أساس هو: افتقار المجتمع الغربي – بعد إلغاء مرجعية الله للإنسان رعاية وتشريعاً – إلى الضمانات التي توفّرها العقيدة الإلهية، فلا بدّ له من ضمان بشري سياسي قانوني يحيط السلطة بالحدود والموانع اللازمة بما يمنع طغيانها على الحريات التي انتزعها المجتمع وما زال يعيش هاجس الحفاظ عليها وتطويرها.

فالديمقراطية في نظر المجتمع الغربي هي الضمان الوحيد للحفاظ على إنجاز الحرية الذي انتزعته المجتمعات الغربية بعد تضحيات مرّة وطويلة بما فيها التضحية بالتخلي عن السماء كطرف للعلاقة مع شؤون الأرض.

أمّا الشورى في الإسلام فبما هي تأكيد لحرية الإنسان وتأصيل لها، هي في الوقت نفسه وبالاعتبار نفسه تجسيد لهذا الربط العميق بين حرية الإنسان وعبودية الله – أي هيمنته وحاكميته على الكون والإنسان- وهذه الحاكمية وفق العقيدة الإسلامية، لا تتجلّى في نظام الكون والحياة الطبيعية فحسب، بل تتعدّى ذلك إلى حقل التشريع للفرد والمجتمع فيما هو شأن بشري اجتماعي.
لذلك، فإنّ الشورى وإنْ كانت نظاماً لصون حرية الفرد والمجتمع وحقّهما في الاحتيار، إلاّ أنّها تختلف عن الديمقراطية حيث هذه الأخيرة لا تضع أيّ قيد على حرية الاختيار، خصوصا يما يتعلق بالمجتمع. فهو يستطيع وفق النظام الديمقراطي الذي يأخذ بمبدأ الأكثرية أن يشرّع لنفسه ما يشاء دون أن تتدخّل أيّ موانع تحريمية لتبطل هذا التشريع، بما فيها المحرّمات الدينية، حيث الدين – هنا – ليس مصدراً للتشريع وحيث الدين – في أحسن الأحوال – اختيار والتزام شخصي.

أمّا في الشورى التي تنطلق من مبدأي حرية الإنسان وحاكمية الله، فإنّ مبدأ الاختيار البشري ليس مطلقاً، حدوده لا تصل إلى حقل التشريع نفسه، لأنّ التشريع – وفق العقيدة الإسلامية – هو من آثار حاكميّة الله وليس من موضوعات حرية البشرية.
هل يعني هذا أنّ حرية الإنسان أصبحت غير ذات معنى ما دامت لا تطال هذا الحقل الحيويّ الهامّ في حياة الفرد والمجتمع؟!
في الجواب عن هذا الإشكال تحضرني كلمة للزعيم المصري سعد زغلول إذْ قال: “لا يجوز فرض قيود على الحرية إلاّ إذا كان هذا القيد من قواعد الحرية نفسها وإلاّ كان ظلماً”. وامتناع المسلم (فرداً ومجتمعاً) عن ولوج حقل التشريع ليس قيداً ظالماً لحريته التي بها اختار عقيدته، فحرمة التشريع على المسلم هي قيد ولكنه قيد من قاعدة الحرية نفسها.
فاقتصار أمر التشريع على الله لا ينفي حرية الاختيار بل يؤكّدها، وذلك لأنّ إباحة التشريع للبشر حتّى في الإطار الديمقراطي سوف تجعل لبعض المجتمع سلطة على البعض الآخر، وخطورة الأمر أنّ هذه السلطة سلطة تشريعية وليست سلطة إجرائية فحسب، ولا يقلّل من خطر هذه السلطة على الاختيار أنّها سلطة الأكثرية على الأقلية.
وفي الإسلام لا سلطة تشريعية لأحد من الناس على أحد، ولا للكثرة على القلّة. نعم في الجانب الإجرائي والتنظيمي – وهنا بالضبط مجال مبدأ الشورى – لا بدّ من وجود هذه السلطة التي لا يستقيم أمر المجتمع بدونها.

السابق
مفاوضات خروج مقاتلي المعارضة السورية من حمص “تقترب من اتفاق نهائي”
التالي
حزب الله يعمم على الاعلاميين عدم نشر صور نعي مقاتليه