السلسلة: هفوات واضحة وأخطاء فادحة

المطالب التي يحملها ممثلو الاساتذة تشغل الوزارة ومجلس النواب منذ أكثر من سنة، وحدّة الخطاب ترتفع وتستند الى اتهامات لبعض الادارات العامة بالهدر، ويقيس أصحاب المطالب ما يودون تحقيقه ويؤكدون أنه لا يفوق نسبة 50 في المئة من الهدر.

نبدأ بمبدأ أخلاقي، ألا وهو أن الهدر بحد ذاته، ولا شك في أن هنالك هدراً سنعرض لبعضه، لا يعني أن المطالب المطروحة شرعية.
يتناسى المطالبون أنهم نالوا تعويضات ملحوظة عن غلاء المعيشة بمفعول رجعي يبدأ منذ بداية عام 2012، وما بين أيلول ونهاية كانون الأول 2012، رصدت وزارة المال بموجب المرسوم 8851 مبلغ 632 مليار ليرة لبنانية عن استحقاقات عام 2012 لتغطية زيادات غلاء المعيشة، وعام 2013 بلغت الأرقام التي أقرت بواقع 71 مليار ليرة لبنانية شهرياً أكثر من 850 مليار ليرة لبنانية.
إضافة الى الـ850 مليار ليرة لبنانية التي توافرت منذ بداية عام 2013 تساوي مطالب الأساتذة بزيادات في الرواتب والرتب بحسب آخر تقرير 2700 مليار ليرة لبنانية.
بداية لا يمكن اقتصاداً بحجم الاقتصاد اللبناني تحمّل زيادات خلال سنتين توازي 850 +2700 = 3550 مليار ليرة لبنانية أي ما يقرب من 2,4 ملياري دولار يفترض تأمينها للأساتذة والعسكريين، أي ما يساوي ألف دولار لكل من هؤلاء الموظفين خلال سنتين بمعدل 8000 دولار للموظف الواحد، على افتراض أن عدد الموظفين نحو 150 ألفاً وقد كان عام 2012 على مستوى 142 ألفاً بين عسكريين – عام 2012 – يقرب عددهم من 102 ألف، ومدنيين يزيد عددهم على 41 ألفاً، وهذه الارقام لا تشمل زيادات أعداد العسكريين والموظفين خلال عام 2013.
لبنان كما هو واضح يعاني تقلّص معدلات النمو الى نسبة 1,5 في المئة خلال السنتين المنصرمتين، والمؤشرات هذه السنة تفيد عن تقلص إضافي، ولم يكن هنالك من نمو على الإطلاق، بل ربما كنا شهدنا تقلّصاً في حجم الدخل القومي لولا برامج الدعم التي توافرت من مصرف لبنان للسكن، والمشاريع ذات المواصفات البيئية، والمشاريع الريادية في مجال المعلوماتية… إلخ.
البلدان الأوروبية واجهت منذ عام 2008، وخصوصاً منذ عام 2009 حينما ظهرت تأثيرات الأزمة المالية العالمية، انخفاضاً في معدلات النمو، وبعض البلدان، مثل البرتغال وإسبانيا وإيرلندا، شهدت تقلّصاً في حجم المداخيل القومية، وقد أقرّت كل من بريطانيا والبرتغال وإسبانيا تجميد مستويات الحد الأدنى للأجر، من دون زيادات تُماشي غلاء المعيشة، بينما خفّضت اليونان رواتب موظفي القطاع العام بنسبة 22 في المئة.
المَطالب تتصاعد في لبنان بعد زيادات ملحوظة منذ سنتين لتغطية غلاء المعيشة، في مقابل تقلّص النشاط الاقتصادي وازدياد الأعباء المترتّبة على لبنان من كثافة المهجرين السوريين، وتقدير الهيئات الدولية أن إنفاق الدولة اللبنانية على الحاجات الأساسية للمهجرين لا بد أن يستقطع خلال سنتين 1,6 مليار دولار.
إن الواقع الاقتصادي والمالي للبنان لا يسمح بأي زيادات إضافية ما لم تقسّط، في رأينا، على خمس سنوات، وتُرفق بمبادرات لتحفيز النمو كي يتمكن الاقتصاد من تحمّل الأعباء الإضافية.
لا بد قبل الانتقال إلى الوضع الاقتصادي العام، والاستهدافات المنطقية والمسؤولة، من الإشارة إلى أن تقديرات الكلفة لتغطية السلسلة تفاوتت منذ سنة ونصف سنة وحتى تاريخه، وليس واضحاً أن ملاحق الأجور احتُسبت تكاليفها بصورة كافية على صعيد تعويضات نهاية الخدمة، وعسى أن يتضح هذا الأمر لأن المثلين الآتيين يظهران أن العطاءات الإضافية وأجور ساعات العمل الإضافية إلخ، تضاعف تقريباً كلفة المعاش الأساسي.
موظف من الفئة الرابعة من خارج الأسلاك العسكرية يتقاضى التعويضات الآتية:
المعاش الأساسي 1018000 ل. ل.
زيادات غلاء المعيشة 232000 ل. ل.
تعويضات عائلية 159000 ل. ل.
تعويضات نقل 200000 ل. ل.
تعويضات ساعات اضافية للعمل بمعدل 50 ساعة شهرياً 339333 ل. ل.
المجموع 1948333 ل. ل.
الجندي العادي، ومن دون سرد التفاصيل التي لا تشمل تكاليف النقل لأنها توفر بوسائل القوى الأمنية، وبالتأكيد لها كلفة قد تزيد على 200000 ليرة لبنانية للجندي الواحد شهرياً، يحصل على مدفوعات شهرية توازي 1920000 ليرة لبنانية، وفي المناسبة هذه أجور تفوق المعدلات المعمول بها في اليونان.
إن الهدف الرئيسي للاقتصاد اللبناني في المرحلة الحالية هو استعادة معدلات النمو على مستوى 5 – 6 في المئة كي نحقق انقلاباً في التوقعات المستقبلية، وهذه النتيجة لن تتحقق ما دام ثمة عجز متعلق بتأمين تيار كهربائي متقطع يوازي أو يزيد على 2,4 ملياري دولار سنوياً.
هذا الرقم لعجز الكهرباء واضح ومحقق من حسابات توفير المال من حساب الموازنة لتغطية العجز بين تكاليف التشغيل والتحصيل. وتكاليف المحروقات بصورة رئيسية واللبناني يدفع فاتورتين للكهرباء، إحداهما مخفوضة مخفّضة لكهرباء لبنان، والأخرى بالغة الارتفاع لأصحاب المولدات الخاصة.
الرقم الضخم لما يُسمى تفويت الدخل على الدولة صرّح به تكراراً من دون تحديده الأستاذ نعمة محفوظ وهو يدور حول عائدات الجمارك غير المحققة حسب ادعائه، وقد سمعنا رأياً لمحام شاب طموح وضع أكثر من كتاب عن قانون الفاتكا الأميركي، وترتيبات التسويات الدولية في مجاري التجارة العالمية، وهو قال: أؤكد أن الهدر في الكهرباء والجمارك يفوق الـ4 مليارات دولار سنوياً، وحيث إن تكاليف تغطية عجز الكهرباء واضحة يكون الرقم الذي يدّعيه بالنسبة الى الجمارك مبالَغاً فيه إلى حد بعيد، فهو ضمناً يدّعي أن هذا العجز يوازي 1,6 مليار دولار.
المحامي المشار إليه والأستاذ محفوظ يستندان إلى أرقام حجم المستوردات، سواء بالوزن، أو عدد الحاويات، ويعتبران أنها تزيد، وفي الوقت ذاته واردات الجمارك نقصت عام 2013 مثلاً بنسبة 2,5 في المئة.
لقد فات المعلقين المتحمسين لتخمين أرقام خيالية أن لبنان مرتبط باتفاقات مع السوق الأوروبية ومع عدد من البلدان العربية على خفض الرسوم الجمركية إلى حد إلغائها وهذا الأمر حصّل بصورة كاملة عام 2014، كما أن هنالك مستوردات للقوات الدولية لا تخضع حتى للتسجيل وذلك بموجب الاتفاقات القائمة مع الأمم المتحدة التي وفّرت للبنان قوات ساهمت في تأمين الاستقرار على حدوده الجنوبية.
إضافة إلى الأمور الواردة أعلاه، لا بد من الإشارة إلى أن مستوردات المازوت، وخصوصاً لاستعمال كهرباء لبنان، مُعفاة من أية رسوم، وهذه المستوردات قد تبلغ كلفة استيرادها أصلاً 1,8 – 2 ملياري دولار، ومستوردات البنزين لا تخضع لرسم نسبي على القيمة، بل لرسم نوعي نحو 220 ليرة لبنانية عن الليتر الواحد بغضّ النظر عن قيمة المستوردات التي ترتفع سنوياً مع ارتفاع سعر برميل النفط عالمياً.
أخيراً لا آخراً، المجلس الأعلى للجمارك كان في السابق بمثابة السلطة المستقلة، وقد أصبح اليوم، بالنسبة الى التعيينات والمناقلات التي هي ضرورية لضبط أي خلل، مقّيداً بقرارات وزير المال، وقد أقرّ حديثاً برنامجاً لضبط المخالفات مع مسؤولي الجمارك.
إن القضية الأهم والأكثر إلحاحاً للبنان واللبنانيين هي استعادة معدلات نمو مقبولة وحتى واعدة إن كان هنالك استقرار أمني في البلاد، والتعداد المُدرج تطرّقنا إليه تكراراً وفي مقالات مختلفة:
1 – استيراد الغاز المسيّل، وتحويله إلى غاز يمكن استعماله كلقيم في محطات كهرباء نهر البارد والزهراني، ومد خط في المرحلة الأولى إلى سلعاتا، من نهر البارد لتأمين الغاز كلقيم لمصانع الإسمنت، ومصنع البتروكيماويات في سلعاتا، وأعمال إنشاء تجهيزات لاستقبال الغاز المسيّل يمكن إنجازها خلال 18 شهراً، وحينئذٍ يكون الوفر على مستوى 1,7 مليار دولار سنوياً.
2 – إطلاق عملية التعاقد على أعمال استكشاف النفط والغاز، وإنشاء شركة وطنية للغاز والنفط، وإعادة النظر في قانون الهيئة الناظمة بحيث تكون هيئة ناظمة لا هيئة مدجّنة. وهذه العمليات إذا انطلقت لمنطقتين في الشمال ومنطقة في الجنوب تؤمّن وظائف لـ36 ألف لبناني ولبنانية.
3 – إدخال القطاع الخاص إلى مشروع تحديث المصفاتين القائمتين، واللتين لا تعملان إلا لتأمين مخزون بعض المشتقات بحيث، إذا أنجزنا مصفاتين بطاقة تزيد عن توقعات استهلاكنا بعد ثلاث سنوات، هي الفترة المطلوبة لإنجاز المصفاتين، نحقق وفراً على حساب ميزان المدفوعات يوازي 600 – 700 مليون دولار سنوياً.
4 – تشريع زراعة الحشيشة وتصديرها، وهنالك بلدان عدة وولايات أميركية شرّعت الاستهلاك، وإسرائيل تنتج الأدوية لمعالجة الصرع من الحشيشة وتصدّر الدواء بأسعار باهظة إلى الولايات المتحدة، وأوروبا، وهي بالطبع لا تريد نجاح لبنان في هذا المجال.
السؤال الحقيقي، هل نريد للبنان أن ينمو وينوّع إنتاجه، أم نستمر في الهوبرة والمغالاة في المطالب، ووضعنا الاقتصادي صعب وحرج؟!

السابق
قوة اسرائيلية اجتازت السياج في الوزاني
التالي
من دولة وصاية عسكرية إلى دولة مدنية بوليسية