المسيحيون يُخفقون مجدداً…

طائفية المسيحيين اللبنانيين أقل طائفية وجوهرانية من طائفية المسلمين اللبنانيين بجناحيهم السنّي والشيعي، ذاك أن الأخيرة أنشأت مؤسساتها السياسية والمذهبية والعسكرية، فيما الأولى تترنح اليوم بفعل تصدع مؤسساتها السياسية. ولبنان اليوم أمام اختبار جديد للطائفية المسيحية هو موعد الانتخابات الرئاسية فيه، أي انتخاب الرئيس المسيحي الماروني، ويبدو أن «الطائفية المسيحية» ستخذل اللبنانيين مجدداً لجهة عجزها عن انتاج رئيس مسيحي للبنان يتمتع بقاعدة تمثيلية تمكّنه من التصدي لموقعي الرئاسة الثانية (الشيعية) والثالثة (السنّية).
والحال أن لبنان كله، بمسلميه ومسيحييه، محتاج اليوم الى رئيس مسيحي قوي، لا سيما بعد أن أثبت المسلمون أنهم ليسوا أهلاً للتفرد بحكم لبنان، وبقي النموذج المسيحي في الحكم الذي ساد على مدى العقود الأربعة الأولى من عمر لبنان، متقدماً على قرينيه السنّي والشيعي وفق كل مؤشرات القياس.
اليوم لا نفوذ سورياً في لبنان، وهو النفوذ الذي كان حدد هوية رئيس الجمهورية في السنوات الخمس والعشرين الفائتة. ومن المفترض أن يكون للمسيحيين بمؤسساتهم السياسية والحزبية والطائفية دور في تحديد هوية الرئيس. وهذه المعادلة كانت أنجزتها الطوائف اللبنانية الكبرى حتى خلال مرحلة النفوذ السوري. فالزعامة السنّية كانت انعقدت لرفيق الحريري، وبعد اغتياله ذهبت الى نجله سعد. هذا الأمر كان الأسهل بين عمليات انتقال الزعامة والقيادة في أعقاب انتهاء المرحلة الأولى من الحرب الأهلية (1975 – 1990). أما الطائفة الشيعية فتولت القيادة السورية عملية انتقال دموية للقيادة فيها، أفضت في النهاية الى تثبيت كل من حركة «أمل» و «حزب الله» ممثلين للنفوذ الشيعي في الدولة وفي السلطة. فجرى توزيع دقيق وطائفي للأدوار وقبل كل من الطرفين، على مضض أحياناً، وبكثير من الشعور المذهبي المكثف في أحيان أخرى، أدوار الطرف الآخر، فأعطيت الرئاسة لنبيه بري وأعطيت الطائفة لحسن نصرالله، وقبل الطرفان على رغم الضغينة بالقسمة العادلة.
المسيحيون في التسعينات دخلوا في سبات طويل. اضطهدتهم السلطة، وراح كل من السنّة والشيعة يتناتشون ما خلفته الانكفاءة القسرية المسيحية. وكان موقع الرئاسة الضحية الأولى، فجيء برئيسين (الياس الهراوي وإميل لحود) عديمي التمثيل المسيحي، فيما كان الرؤساء المسلمون يتمتعون بتمثيل لا لبس فيه. وإمعاناً في التهميش، تولت السلطة السورية التمديد لكل منهما نصف ولاية أخرى. وما إن انسحب الجيش السوري وأكمل الرئيس إميل لحود ولايته الممددة، حتى جاءت تسوية الدوحة برئيس جمهورية ثالث من نوع مختلف انما يشارك سلفيه ضعف صفته التمثيلية.
والحال أن لبنان لم يكن بخير طوال فترة الانكفاء المسيحي. فقد ضعفت لبنانية لبنان الى حد كبير، وتولت الطائفتان المنتدبتان تحويله ساحة لا بلداً. وبينما استمر النموذج الاجتماعي المسيحي في تغذية صورة ايجابية عن لبنان، بدأت المظاهر المتبقية من هذا النموذج تضعف أمام انهيار المؤسسات التي أنتجته، الى أن وصلنا اليوم الى قمة الشيعية وقمــــة السنية مع ما يجري بين هاتين القمتين من نزاع دموي، فيما المنخفض المسيحي ينوء بينهما، مع ما تبقى من لبنانيين سئموا القمم فلجأوا إلى جوار الطائفة غير الناجية.
ثمة فرصة تلوح اليوم لإنتاج رئيس مسيحي لبناني. يكاد المرء يصدق هذا لولا أن المسيحيين أنفسهم سئموا على ما يبدو مماهاة غيرهم من الطوائف. فالاستعداد للاستحقاق يكشف أن طائفة الرئيس العتيد هي في صدد انتاج نسخة مطابقة لنسخ الأسلاف الثلاثة السابقين.
رئيس مسيحي قوي يعني تسوية مسيحية في البداية، وهو أمر لا يبدو أن القوى السياسية المسيحية بصدد إجرائه. فإذا أخذنا النموذج الشيعي في التسوية التي أنتجت رئيساً «قوياً وممثلاً» للمجلس النيابي، نرى أن ثمناً ليس سهلاً تم دفعه على مذبح هذه التسوية القسرية. الطائفة السنية أيضاً لم تكن متساهلة في حماية الزعامة الوحيدة المنعقدة لآل الحريري، وخير دليل على ذلك التجربة القصيرة والمريرة التي خاضها الرئيس نجيب ميقاتي في رئاسة الحكومة من دون رضا آل الحريري، فقد كانت هذه التجربة درساً فعلياً لمن تخوله نفسه «شق الطائفة».
فهل المسيحيون اللبنانيون في صدد انتاج صيغة مشابهة تجعلهم على الأقل متساوين مع الطوائف الكبرى؟
لا يبدو أن ذلك ممكن حتى الآن. ليس تشتت القيادة هو السبب على ما تلهج ألسنة العامة منهم. الأمر يتعدى ذلك على ما يبدو. فالقوتان المسيحيتان الرئيستان، أي التيار العوني والقوات اللبنانية، والقوتان الرديفتان الأخريان، أي حزب الكتائب وحزب المردة (سليمان طوني فرنجية)، جميعهم عاجزون عن اجراء تسوية تبادلية تُقدم موقع المسيحيين على طموحات زعماء هذه الكتل. فالتسوية قد تقضي مثلاً بأن يتوجه ميشال عون الى معراب وأن يُقدم عرضاً لسمير جعجع يقضي بأن يدفع عون لجعجع ثمن الرئاسة، على نحو ما دفعه بري لنصرالله من أثمان لرئاسته المجلس النيابي.
لا يبدو أن الرجلين معدّان للمهمة المؤلمة. الثقة بينهما منعدمة، والراعي المفترض لتسوية من هذا النوع (البطريريك الراعي) أضعف من أن يتولى المهمة. واذا كان النفوذ السوري قد حل مكان الثقة المنعدمة بين نصرالله وبري في حينه، فإن غياب راع خارجي في الحالة المسيحية لن يُساعد على الإطلاق في بعث الأمل بتسوية من هذا النوع.
اذا أزحنا المعطيات الخارجية جانباً، فإن على ميشال عون أن يُدرك أن الوحيد الذي يُمكنه أن يجعل الجنرال رئيساً هو سمير جعجع. وعلى الأخير أن يُدرك أن رئيساً للجمهورية ذا صفة تمثيلية سيؤسس لسابقة ايجابية في موقع المسيحيين في السلطة، وسيتيح فرصاً لاحقة في الرئاسة. أما المخاوف المتبادلة فلن تزول طبعاً، لكنها أقل بكثير من أن يُكرر المسيحيون حكاية الرئيس الضعيف. وهذا مع العلم أن عون رئيساً هو غيره في الرابية، فيما جعجع رئيساً لتكتل نيابي أكبر في ظل رئاسة عون يعني غير ما يعنيه اليوم.

السابق
دودة تعالج العديد من الأمراض العادية والمزمنة
التالي
صور: حيث البحر يكتم أسرارها (1/3)