ماركيز روائي ‘القارة’ فرض سلطة المخيلة والالتزام

كم كان غابريال غارسيا ماركيز مصيباً عندما سمّى مذكراته التي صدرت عام 2002 «عشتُ لأروي»، فهو عاش فعلاً ليروي ومات عن ستة وثمانين عاماً، وفي قلبه غصة الرواي الذي كان يحلم بسرد المزيد من الحكايات. فحياته كما يعبّر في هذه المذكرات، لم تكن الحياة التي عاشها بأيامها ولياليها، بل كانت حياة الذكريات التي رواها والحكايات التي كتبها. هذا سر ماركيز، روائي القارة الأميركية اللاتينية، بغرائبها ووقائعها الأغرب من الخيال وتاريخها الموشّح بالدم وثوراتها والديكتاتوريين الغريبي الأطوار الذين توالوا على الحكم فيها… إنها فرادة هذا الروائي الذي استهل مساره صحافياً لامعاً ثم أصبح صاحب أشهر عمود، كان ينتظره قراؤه «القاريون» مسمين إياه «عمود غابو»، وهو الاسم الذي كان أصدقاؤه يتودّدون به. وفي الصحافة كان ماركيز ايضاً كاتب ريبورتاج متميزاً، وهذا ما ظهر أثره في رواياته ذات الطابع السياسي الهجائي والتاريخي. لكنّ ماركيز كان ماهراً جداً في توظيف مهنة الصحافي في صميم صنيعه الروائي الذي راح ينحو منحى الواقعية السحرية التي سعى الى ترسيخها مع بضعة من الرفاق في القارة، وقد بلغت معه ذروتها في «مئة عام من العزلة»، هذه الملحمة الروائية التي تعدّ من عيون الروايات العالمية الخالدة مثلها مثل «عوليس» لجيمس جويس و»الصخب والعنف» لوليم فولكنر و»موبي ديك» لهرمان ملفيل و» في قلب الظلمات» لجوزف كونراد.
ولعلها مصادفة لافتة ان يرحل ماركيز في الشهر الذي صدرت فيه روايته «مئة عام من العزلة» وهو نيسان (ابريل) 1967 وبات عمرها الآن سبعة وأربعين عاماً، وهي الرواية التي صنعت له مجداً وشهرة ما كانا في حسبانه، كما يعترف، وفتحت أمامه الطريق الى جائزة نوبل عام 1982 وكرست اسمه روائياً عالمياً صاحب مدرسة وأسلوب غير مألوفين سابقاً. ومع صدور هذه الرواية الرهيبة، التي تجمع بين الفنتازيا والفانتاستيك أو الغرائبية والمأساة والسخرية والعبث اصبحت مدينة «ماكوندو» التي تدور الأحداث فيها وحولها، إحدى أشهر المدن الروائية العالمية، وهي بدت صورة مختصرة عن العالم المتوهم الذي ابدعته مخيلة ماركيز. وفي هذه المدينة التي لا حدود فيها بين الحقيقة والوهم تبرز شخصيات لا تُنسى، لا سيما عائلة «بونديا» التي تمثل بغرابتها ومأسويتها القدر الأميركي اللاتيني، المتخبّط في البؤس والمجهول. ومن هذه العائلة خرج الكولونيل أورليانو بونديا الذي يمثل نموذجاً كاريكاتورياً للديكتاتور الأميركي اللاتيني الذي يتزوج من سبع عشرة امرأة وينجب منهنّ سبعة عشر طفلاً يقتلهم واحداً تلو الآخر.
إلاّ أن ماركيز لا يمكن حصره البتة في «مئة عام من العزلة» التي تُرجمت الى ثلاثين لغة وتخطى مبيعها خمسة وثلاثين مليون نسخة وترجمت الى العربية في أربع صيغ عن الإنكليزية أولاً ثم عن الفرنسية وأخيراً عن الإسبانية مع المترجم صالح علماني. ماركيز هو أيضاً صاحب روايات وقصص غاية في الطرافة والواقعية السياسية كما السحرية، وهي تؤلف بذاتها «قارة» أدبية: «ليس للكولونيل من يراسله»، «الجنرال في متاهته»، «خريف البطريرك»، «الحب في زمن الكوليرا»، «قصة موت معلن» وبطل هذه الرواية البديعة سوري الأصل يُدعى سانتياغو نصار، وهو يقع ضحية مؤامرة تهدف الى قتله وقد أُعلن موته منذ مطلع الرواية. أما اللافت فهو اختتام ماركيز «مهنته» الروائية عام 2002 برواية «ذاكرة غانياتي الحزينات» التي سلك فيها سبيل الروائي الياباني الكبير ياسوناري كواباتا في روايته الشهيرة «الجميلات النائمات»، وكان ماركيز كتب مرة ان الرواية الوحيدة التي كان يتمنى ان يكون كاتبها هي «الجميلات النائمات». في هذه الرواية تحتدم ذاكرة ماركيز الإباحية التي يهيمن عليها خريف العمر. لكن ماركيز عكف بعد روايته هذه على اصدار مقالات له ونصوص سياسية، علاوة على مذكراته.
عاش ماركيز حياة بوهيمية متنقلاً بين اوروبا غرباً وشرقاً، وبين بلدان القارة الأميركية اللاتينية وبلغ نيويورك، هو المناضل الثوري الذي آزر حركات التحرر وواجه الثقافة الإمبريالية والكولونيالية، داعياً الى منح الشعوب المستعمرة حرياتها وحقوقها، وهاجياً القوى العظمى اليوم التي تهدد العالم بصواريخها النووية. ونجح ماركيز أيما نجاح في التوفيق بين كونه كاتباً ملتزماً ومنخرطاً في النضال السياسي و»الإنسانوي»، وروائياً متسامياً صاحب مخيلة ساحرة ونفَس ملحمي ونزعة تراجيدية تسائل ذاكرة التاريخ وعنف البشر ومأساة الحياة وعزلة الإنسان بصفتها قدراً مجهولاً وغامضاً. وكم كان موقفه جريئاً في إدانة المجازر التي ترتكبها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وفي توقيع بيانات الاستنكار العالمية في هذا الشأن.

السابق
الانباء: حصول “الكتائب” على أصوات من “8 آذار” مبني على وعود سياسية
التالي
أديب البلوشي.. عالم إماراتي يدهش علماء أوروبا