رحيل نزيه خاطر حارس وجوه المدينة (1930 – 2014)

يودّع لبنان ثلاثة من مبدعيه في سنة واحدة، فهذه خسارة كبيرة فوق كل الخسارات، وفوق كل الكوارث التي نعيشها.

أن يودّع لبنان، أسامة العارف، الكاتب المسرحي المميز والمختلف الذي أغنى مكتبة المسرح اللبناني، وكتب خلال السنوات الأخيرة خمس مسرحيات جديدة، كانت بمثابة الدواء لروحه التعبة، فهذه خسارة فادحة. أن يودّع يعقوب الشدراوي، الكاتب والمخرج والممثل ورجل الفكر والأدب الذي أضاف بفنه النادر على المسرح اللبناني والعربي، أعمالاً رائعة متجذرة في تربة المسرح العالمي المجبول بتراب لبنان، فهذه أيضاً خسارة فادحة.
والآن. الآن أكتب عنك، يا نزيه خاطر، أيها الصديق، أيها العدو، أيها الناقد، أيها الشجاع، أيها الدارس والممحص والعارف بكل مداخل المسرح ومخارجه والمؤرخ للأعمال الكبيرة والصغيرة.
أنتَ حملتَ المسرح على قلمكَ ووجدانكَ طوال أربعين عاماً، وكنتَ قد برعتَ بنقد الفن التشكيلي، غير أنكَ لمعتَ في نقدكَ ومواكبتكَ للمسرح اللبناني والعربي، فأصبحتَ جزءاً أساسياً من ذاكرته.
في بداية مشوارنا، افترقنا عنك بالأفكار والذوق العام للمسرح، لكننا حافظنا على احترام الآخر، ومواكبة أعمالكَ النقدية من دون ملل. وتخاصمنا وتصالحنا. ومضت السنون ونحن في خضمّ بحر من الخلق والإبداع والنقد الدائم. لم تكن تحب ما كنا نقوم به في “محترف بيروت للمسرح”، لأننا اخترنا المسرح الشعبي المفذلك، وأنتَ كنتَ تهوى المسرح التجريدي الشكل. نحن غطسنا في البحث عن مسرحنا اللبناني والعربي، ولغتنا وأدواتنا، وأنتَ أحببتَ التجريب. لكن المسرح يا صديقي كان وسيبقى دائماً تجريبياً إذا أراد الحياة المتألقة، وإلاّ أصبح اجتراراً. نحن أيضاً كنا تجريبيين بطريقتنا الخاصة، ولكن ليس كما أردتَ يا نزيه.
غير أنكَ أحببتَ “المتمردة”، كتابة بول شاوول، إخراج فؤاد نعيم، و”البكرة” كتابة تيريز بصبوص وإخراج فؤاد نعيم، و”الحلبة” كتابة بول شاوول وإخراج فؤاد نعيم، وكتبتَ الكثير الكثير من المقالات عن هذه المسرحيات.
ثم أسستُ “مسرح المدينة” بعد الحرب، وراقبتَ أعمالي المسرحية كمخرجة، وامتدحتَ الإخراج والتمثيل والأعمال كلها. وكتبتَ عن كل مبدع، عن كل ممثل مبتدئ في كل مسرحية، ولم أشاهد قطّ أيّ ناقد، غيركَ، يحضر العمل المسرحي ثلاث مرات أو أكثر، مع قلم وورقة وملاحظات. كنتَ تدقق وتمحّص وتحاور الفنانين والتقنيين والمخرجين. وكنتَ تجلس ساعات طويلة كي تكتب مقالة أو اثنتين.
منذ ذلك الحين، بعدما انتهى عملك في “النهار”، افتقدنا خبرتك ونظرتك الثاقبة، وإن كانت في بعض الأحيان سلبية. لكننا على رغم ذلك، كنا نستفيد من دراستك العميقة والمتقنة. لذلك سوف نفتقدك يا أستاذ نزيه. تذهب وتأخذ معكَ أسراركَ ومثابرتكَ ولغتكَ الجميلة التي تشبه منمنمات فكرية لغوية نقدية ذات إحساس مرهف. لغة خاصة به لا تشبه أحداً. كنتَ تغوص في كل سر من أسرار المسرح، في السينوغرافيا والأزياء والإضاءة والإخراج والتمثيل.
لم تكن لتترك زاوية صغيرة لا تضيئها بضوئكَ الصغير. وكان لتقدمك بالسن الأثر الكبير في جعلكَ أكثر انسانية وشفافية ولباقة، من دون أي تنازل عن الذوق والحس والحرفة التي اكتسبتها من مشاهدتك مئات المسرحيات.
لم تترك الفنانين لحالهم، فكانوا يستهابونكَ وينتظرون نقدكَ، وكنتَ تثير غضبهم الشديد أو الاستياء الشديد، وكانت تحصل مشادات كلامية لاذعة أحياناً، لكن ذلك كان ولا يزال بمثابة ملح وبهار لطبخات المسرح اللبناني.
وعندما غبتَ عن الكتابة منذ سنوات، غاب النقد المفيد والنقد اللافت الذي يبنى على تاريخ الفنانين وتطورهم وتاريخ المسرح وتطوره.
نزيه خاطر، لن ننساك، والمسرح لن ينساك، وسوف نتركك في الكواليس، وعينك دائماً ساهرة علينا.

 

السابق
هجوم على فيلم «إبن الله»
التالي
منى أبو حمزة في ’حديث البلد’ متماسكة لكنها حزينة