في حب جعجع أو عون

من الطبيعي أن تدعم جماهير الطوائف مرشحاً لرئاسة الجمهورية من دون أن تكون هذه الجماهير بالضرورة منتمية طائفياً إلى المرشح. يكفي أن يكون “حليفاً” لقيادتها في دعم سلاح المقاومة (عون) أو في رفضه (جعجع)؛ ولو بالصورة “الملطَّفة” المضحكة، التي يحاول المرشح الأخير إدراج هذا السلاح ضمن مناخه أو برنامجه “الإنتخابي”، وكلاهما مستجدَ.
ومن الطبيعي أيضاً أن تكون القيادات الطائفية بصدد جس نبضها ونبض شبكة أمانها الإقليمية والدولية المعنية بهذه الإنتخابات؛ لكي تأخذ قرارها وتصطف خلف صاحب الحظ الذي سيؤول إليه هذا المنصب العزيز في سلم الهرمية الطائفية اللبنانية؛ فتناور أو تصمت أو تتكلم أو تتشاور الخ.
وليس من المستبعد، أيضاً وأيضاَ، أن تتم هذه الإنتخابات؛ فيكون نظامنا قد أخذ فترة استراحة، من أجل الإستمرارية، بأنه صوب “مسيرته” بملء أحد فراغاته في المؤسسة الرئاسية.. أو أن لا يتم إنتخاب الرئيس، فيكتمل بذلك بدر الفراغ السياسي، وندخل في جهنم آخرى، درجة جديدة من حمى الفوضى والإقتتال.
ولكن ما هو مستغرب، وغير طبيعي، أن تنضبط نخبتنا، “غير الطائفية”، لا بل و”العلمانية”، على ما تصف نفسها، والتي لا “تؤمن” بالنظام السياسي الذي يحكمها، أن تنضبط ضمن خط التأييد لجعجع أو التسخيف من إحتمالات فوز سمير جعجع، أو العكس، بتنصيبها ميشال عون، قبل ان ينطق رسمياً بكلمة واحدة عن ترشحه، مقلداً بذلك مرشحاً آخر للجمهورية، عسكري مثله، هو الرئيس القادم لمصر عبد الفتاح السيسي.
فما أن أعلن سمير جعجع ترشحه لرئاسة الجمهورية حتى فاض الإعلام ومعه الفايسبوك، وكذلك الألسن(وربما تويتر)، حتي عادت فارتفعت المتاريس ووقف الرجال خلف الخنادق، في مشهد يستعيد “معارك” سابقة عرفتها “ساحتنا الثقافية”: فئة، هي نفسها، وقفت بإعتزاز وثقة مريبين، تشيْطن سمير جعجع، بكل الحجج التاريخية وغير التاريخية. وعلى رأسها إن جعجع كان قائد ميليشيا، “قتّيل قُتَلا”. وان عون، غير المرشح رسميا، أفضل منه: رجل دولة، مؤسسة وقانون… وفئة أخرى، أكثر ثقافة منها، ومع ذلك، أخذت تدخل في محاججة وفذلكة ومقارنات، يكاد بعضها أن يدخل جعجع في سلك القديسين: تحاول أن تبني (بيئة) سيرته، “تضعها في ظرفها” أو قي “سياقها”، تخضع نفسها لنسبية المعايير، وتتغنى فوق ذلك بالتسامح، وكأنها بذلك تدعم المسيحيين، أو الوجود المسيحي في الشرق. مستوى الفريق الثاني من بين النخب المتكلمة، أرقى من مستوى الفريق الأول، عاشق ميشال عون وكاره سمير جعجع. هذا من حيث المعطيات الأولوية. أما ما يخبئه هذا التميز الثقافي، فهو اشتراك طرفيه في النظر إلى الزعامات السياسية اللبنانية. لا تنفع الثقافة هنا بشيء. التخنْدق هو نفسه. مع فارق بالأناقة، يجتمع الإثنان على ما يلي:
عدم انتباههم أبداً بأن صلاحية الإثنين السياسية، عون وجعجع، انتهت منذ عقدين وأكثر بقليل، عندما أشعلا “حرب الإلغاء”؛ تلك الحرب المسيحية-المسيحية التي اندلعت في العام الأخير من الحرب الأهلية (1989)، والتي أضعفت المسيحيين، وأخرجتهم من الحرْبين منتزعي صلاحيات مندوبهم إلى النظام، أي رئيس الجمهورية.
تجاهلهم، في خضم التحمس لهذا أو ذاك من المرشحين الأبرز، هو تماما عكس ما ينشدونه ليل نهار من نبذهم لهذا النظام الطائفي البغيض: إنهم يحشرون أنفسهم بين جماهير الطوائف، يعظمون صفوفها، في كلا الضفتين، برشاقة المترفعين عنها، تلك الجماهير.
قلة إدراكهم لوظيفة “حبهم” أو “كراهيتهم” السياسية، الحائمة حول عقلهم ومخيلتهم، العاملة على إخمادهما. خذ مثلا بسيطاً: عندما يتعلق الموضوع بجرائم جعجع السابقة، فئة منهم لا ترى، لا تريد أن ترى، لا تستطيع أن ترى، بأن القتل كان من وسائل كل الزعماء الذين عاصروا الحرب الأهلية، وان هؤلاء ما زالوا على كراسيهم، كما خلقتهم أمهاتهم، أبرياء من كل ذنب. وعندما يراد من الجهة المقابلة، الرد على هذه الفكرة، تكون جرائم جعجع قد دخلت في براد خاص، اسمه النسبية، ليعزل عن كل ديناميكية الحرب هذه، ولترقَّع سيرته بتأتآت من هنا ومقارنات هزيلة من هناك، تحجب عنك المشهد السياسي الأعم. وقوامه، إن الانتخابات الرئاسية القادمة هي واحدة من طافيات نجاة النظام السياسي المهترىء، المهدَّد بالإنهيار التام. تدخل فيها كل الحسابات إلا واحداً: مصلحة لبنان واللبنانيين، القريبة منها والبعيدة.

السابق
استشهاد الزميل «حمزه الحاج حسن» وإثنان من فريق المنار في «معلولا»
التالي
الامم المتحدة تدين التعذيب في السجون السورية