أخيراً…«المجلس الوطني لـ 14 آذار»

قررت مجموعة من قادة الرأي في 14 آذار إنشاء «المجلس الوطني»، ودعَت إلى مؤتمر صحافي هذا الأسبوع للإعلان عن أهدافه وبرنامج عمله. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستضيف هذه الخطوة جديداً على واقع 14 آذار أم أنّ مصيرها سيكون الفشل كسابقاتها؟ وهل ستسمح مكوّنات الحركة الاستقلالية الحزبية والمستقلة بولادة تجمّع مهمته رفع الصوت ضد أيّ انحراف في مسار هذه الحركة؟
المشهد في الأمانة العامة لقوى 14 آذار كان مختلفاً هذه المرة. الحيوية الموجودة تذكّر بالأشهر أو السنوات الأولى التي رافقت الإعلان عن قيام هذه الأمانة. المتحلّقون حول الطاولة في قاعة اجتماعاتها من الوجوه التي ساهمت في الانتفاضة الشعبية في 14 آذار 2005 وصنعتها وواكبتها، ولكنها لم تعد تشعر بالانتماء الإداري إلى هذه الحركة وحتى السياسي.
الجرأة في الطروحات كانت استثنائية، من رفض تقديس المشهد المليوني، إلى اعتبار أنّ 14 آذار خدمت وظيفتها، وأنّ أي محاولة لإحياء دورها ستكون اصطناعية ومصيرها الفشل، وأنّ الحاجة ملحّة للتفكير في شيء جديد.النقد الذاتي لأداء قوى 14 آذار تركّز على التسويات السياسية والخطوات غير المبررة والعجز عن تطوير نفسها وغياب الرؤية الإصلاحية الواحدة والاختلاف في المحطات الانتخابية النيابية والرئاسية والحكومية وانتقاد سلوكها التشريعي عبر موافقتها على قوانين تتناقض مع الشرعة العالمية لحقوق الانسان من قبيل حماية المرأة من العنف الأسري إلى حماية الطفل، كما انتقاد تحوّلها إلى إطار تقليدي يعمل على طريقة ردّ الفعل ولا يلبّي تطلعات الرأي العام الاستقلالي.

ولكن أمام هذا الواقع التشخيصي، كان هناك حرص في المقابل على التمسّك بثلاث لاءات:

أولاً، رفض الخروج اليوم من 14 آذار نحو حالة جديدة، لأنّ الفرصة ما زالت متاحة لتأدية دور ضمن سياق هذه الحالة من خلال إنشاء إطار جديد يتفاعل مع كلّ مكوّنات الحركة الاستقلالية الحزبية والمستقلة من أجل الأفضل.

ثانياً، رفض نقل المعركة إلى داخل 14 آذار، أو التلهّي بمشاكل داخلية إضافية يستفيد منها الخصم لتقويض ما تبقى من الدولة اللبنانية.

ثالثاً، رفض التحوّل إلى إطار كلاسيكي أولويّته الصورة وتأدية دور سياسي تقليدي وحجز مكان على الطاولة وفي الصفوف الأمامية، وكأنّ الاعتراض سببه شكليّ وسلطويّ، فيما الشكوى هي من غياب إطار يكون على مسافة واحدة من الجميع، ووظيفته تسليط الضوء على أيّ خلل سياسي، ويعبّر عن صوت الناس.

ومن هنا برزت الدعوة، على طريقة المسعى الأخير أو «اللهم أشهد أنّي قد بَلّغت»، إلى إعلان «المجلس الوطني» كأمر واقع على الجميع، فلا استئذان ولا مشورة ولا مَن يحزنون، وهذا الكلام ليس للاستفزاز ولا التحدي، إنما للقول إنّه ما زال هناك فرصة يجب التقاطها من الجميع وقبل فوات الأوان، أي قبل تحوّل شريحة واسعة من الرأي العام الاستقلالي إلى موقع النقيض لـ14 آذار، وبطبيعة الحال ليس لـ8 آذار كونها قوّة احتلال في البلد، إنما تبقى الاستقالة الطوعية من الشأن العام خياراً مطروحاً في رسالة مدوية بأنّ مقولة البقاء في 14 آذار بحجّة غياب البدائل ساقطة.

وإذا كان الفارق شاسعاً بين الواقعية السياسية التي تحتّم على القوى السياسية اتخاذ مواقف معينة والتجاوب مع مبادرات محددة، وبين المبدئية السياسية التي ترفض أيّ مساومة أو تنازل، فإنّ المشكلة دوماً هي في الإفراط في الواقعية وعدم التوفيق بينها وبين المبدئية، خصوصاً أنّ كل المشكلة منذ العام 2005 تنحصر في سببين:

1 – الرضوخ لمنطق السلاح. فلا أحد في 14 آذار في وارد مواجهة سلاح «حزب الله» بسلاح آخر، ولكن من حقّ 14 آذار أن ترفض التعايش مع هذا السلاح في مختلف أطر الدولة ومؤسساتها بغية الدفع من أجل تسوية وطنية تعيد اللبنانيين متساوين أمام القانون، خصوصاً أنّ هذا السلاح متهم بالاغتيالات وتوريط لبنان في الحروب مع إسرائيل وسوريا وترهيب اللبنانيين عند كل استحقاق. وقد أثبتت التجربة الحكومية الأخيرة أنّ «حزب الله» كان بأمَسّ الحاجة للتأليف وتبريد المناخات المتشنجة.

2 – لم تشكّل 14 آذار في ممارستها النيابية والوزارية فارقاً نوعياً عن 8 آذار. وإذا كان لا يجب إسقاط العرقلة والتعقيد والتعطيل الذي رافق الفترة السابقة كلها، إلّا أنّ ثمة انطباعاً معطوفاً على وقائع بأنّ الفارق بين الطرفين ليس جوهرياً.

فالمعركة في لبنان بهذا المعنى لها وجهان: سيادي وإصلاحي، والطرف الذي يَنتهك السيادة يمنع الإصلاح، لأنّ تعويد الناس على حياة طبيعية ومتطورة وإعادة الاعتبار لمفهوم الدولة يساهم في تطويق مشروع الدويلة. ولا يختلف اثنان أنّ المعركة السيادية تتصدر الإصلاحية وكلّ الأولويات الأخرى، إلّا أنه حان الوقت لتبرز 14 آذار بأنها حداثوية في موازاة تمسّكها بالعناوين السيادية.

لا أحد يتوهّم بأنّ المجلس الوطني «بَدّو يشيل الزير من البير»، ولكنه سيشكّل بالتأكيد مساحة لجمع أوسع شريحة من المستقلين، والأهم سيكون صوت الضمير داخل الحركة الاستقلالية، وسيركز نشاطه على المستقبل لا على فتح الدفاتر القديمة والماضية، فما مضى قد مضى من التحالف الرباعي والـ»سين.سين» إلى الارثوذكسي والحكومة الأخيرة وغيرها…

فالمهم في هذه المرحلة إعادة الدينامية والحيوية إلى الشرائح التي فقدت الأمل بـ14 آذار، وهذه الشرائح ليست بحاجة لفحص دم من أحد، كما أنها لا تسمح لنفسها بإجراء الفحص نفسه لأيّ مكوّن من مكونات انتفاضة الاستقلال، إنما المطلوب إشعار هذه المكونات أن قراراتها ومواقفها وخطواتها لن تمر من الآن وصاعداً مرور الكرام، حيث ستشكّل قوة ضغط لإعلاء المبادئ والثوابت، كما تحميل أيّ مكون مسؤولية أي تفرّد في قرارات مصيرية، والدفع باتجاه تحويل صناعة القرار داخل 14 آذار إلى صناعة جماعية.

والمجلس الوطني لن يجمع مبدئياً سوى المستقلين، لأنّ للحزبيين أطرهم، وسيتمتع باستقلالية إدارية وسياسية، لأنه خلاف ذلك ينتهي قبل أن يبدأ، إذ ما نَفع أن يكون تحت السقف ومضبوطاً ومسيّراً، حيث يتحوّل إلى مجرد رقم، إنما غايته، في الوقت نفسه، ليست الشعبوية ولا الغوغائية ولا المزايدات، فيما سيستمد قوته من صدقيته وشفافيته ووضوحه.

ويخطئ كلّ من يعتبر هذه الحركة حركة انشقاقية، لأنّ نشاطها يجري تحت سقف الأمانة العامة التي فتح أمينها العام الدكتور فارس سعيد أبوابها أمام هذا التحرّك الذي سيعيد الحيوية إلى 14 آذار التي عليها أن تلتقط فرصة عودة الزخم إلى كوادرها ضمن ثورة الأرز، مقابل ترك الحرية لأعضاء «المجلس الوطني» الذين استفادوا من الوضع داخل 14 آذار ما بين تأليف الحكومة والانتخابات الرئاسية والترهّل التنظيمي والسياسي من أجل انتزاع هذا المجلس…

السابق
المعركة الفاصلة غداً: إمّا أرباح المصارف وإمّا حقوق الناس
التالي
سلسلة من المزايدات وبلا إصلاحات!