نعمة الاستقرار وتبخّر المحاور.. حالة دائمة أم عابرة؟

قد يعطى اكثر من توصيف لأبعاد الحدث الأمني الذي شهده اول من امس مخيم المية ومية الذي اتسم تاريخياً بالاستقرار النسبي خلافاً لجاره مخيم عين الحلوة، ولكن الارجح ان هذا الحدث الدراماتيكي الذي أدى الى مقتل ثمانية اشخاص وجرح نحو 10 آخرين يندرج تحت عنوان امني اساسي بات ثابتاً في الاسبوعين الماضيين وهو التصفية التدريجية لبؤر ومظاهر فلتان امني نشأت في اماكن شتى من لبنان على وهج الاشتعال المستمر للساحة السورية

البعض ينظر الى حدث المخيم الجنوبي على اساس انه جزء من يوميات الصراعات التي لا تنقطع بين الفصائل والقوى الفلسطينية التي صارت جزءاً من شخصية الوجود الفلسطيني في لبنان، وخصوصا في داخل حركة “فتح” كبرى المنظمات التي عاد جسمها في لبنان ليرث انقسامات قيادتها في رام الله. ومع وجاهة هذا التحليل فان الاشتباك الامني الذي استمر طوال اكثر من عشر ساعات في مخيم صغير وأفضى الى اجتثاث فصيل فلسطيني جديد كان حتى الامس القريب مجهولاً، يعني سياسياً ان القرار الكبير الذي تدعمه السلطة في لبنان والقاضي بأن تظل حركة “فتح” الأم هي الأقوى والممسكة بزمام القرار في مخيمات اللاجئين وخصوصا في المخيم الأخطر (عين الحلوة) هو الساري.

وليس مفاجئاً القول ان هذا الأمر يستوي مع القرار المتخذ على المستوى اللبناني حيث بدا جلياً نجاح سريان القرار القاضي بطي صفحة الأحداث والاضطرابات والبؤر الامنية المشتعلة غب الطلب بدءاً من صندوق البريد المستعجل، اي طرابلس، امتداداً حتى اقاصي عكار وصولا الى البقاع الشمالي. لا ريب ان كثراً قد اخذتهم موجة استغراب حيال “العصا السحرية” التي ظهرت فجأة وازالت محاور طرابلس وجعلتها خلال ساعات نسياً منسياً وكأن هذه المحاور لم تكن مشتعلة مدى ما يقرب من ثلاثة اعوام.
هكذا وخلال ساعات قليلة يتبخّر “قادة المحاور”، يغيبون عن الانظار ولا يتركون للجمهور سوى وعيدهم وشتمهم للذين استغلوهم واستخدموهم لغايات ومآرب سياسية.
انها بطبيعة الحال ليست صحوة ضمير مفاجئة ومتأخرة من هؤلاء الذين استمرأوا الادوار والمهمات القذرة التي أُسندت اليهم فظنوا انفسهم رقماً صعباً في معادلة المدينة واستطراداً المنطقة كلها، بل هي ادراك متأخر بأن للعبة الخطرة التي بدأوها حدوداً وآجالاً محتومة. ولا شك في أن ثمة من يسأل عن سر هذا الانقلاب الدراماتيكي المفاجئ الذي أطاح معادلات امنية معقدة وصعبة خال كثر انها دائمة ما دامت الاحداث في الساحة السورية المجاورة على حالها من الاتقاد، وأحل محلها واقعا مغايراً ديدنه العودة الى دائرة الاستقرار. تتعدد بطبيعة الحال التفسيرات والقراءات ولكنها توشك ان تجمع وتتقاطع عند اسباب جوهرية ابرزها:

– ان القوى والتيارات التي وفّرت المظلة الواقية لحروب المحاور وللأحداث الأمنية المتنقلة، قد أخذت ما تريده في دست الحكم وبالتالي لم يعد جائزاً او مبرراً ان تحتفظ “بعدة” المرحلة الماضية التي كانت ضرورية لها وهي خارج جنة الحكم.

– ان ثمة صفحة مرحلة جديدة انفتحت وصار من الضروري التكيّف مع شروطها ومعطياتها حتى لو كانت الاثمان المطلوبة مد اليد الى قوى سياسية كان حتى الامس القريب مطلوب عزلها ومحاصرتها وإقصاؤها عن أي دور في السلطة تحت عناوين شتى.

ولهذا الامر علاقة وثقى بنتائج حسابات المرحلة الماضية التي أظهرت سقوط رهانات عدة عقدت وتم الركون اليها، وله صلة ايضاً بتوجهات “تيار المستقبل” حيث يظهر واضحاً ان المطلوب التهيئة بعناية لعودة الرئيس سعد الحريري من الخارج وتسلم رئاسة الحكومة وذلك بعدما اسقطت الحكومة الاولى التي ألفها بعد انتخابات عام 2009، في حدث نادر في تاريخ الحكومات في لبنان.
– صار واضحاً ان ثمة مخاوف كبرى لدى الاقليم وعواصم كبرى من تمدد القوى المتشددة والارهابية تحت جنح الاحداث المشتعلة.

– وصار مطلوباً ايضاً عملية فصل أكثر ضمانة بين لهيب الساحة السورية وتداعياتها وبين الساحة اللبنانية. ففي الاعوام الثلاثة الماضية كان ثمة دور اعطي لهذه الساحة عنوانه العريض ان تكون ممراً آمناً للسلاح والمسلحين الى العمق السوري وأن تكون مستشفى خلفياً وملجأ للنازحين. ولم يعد خافياً ان هذا المشهد الذي دفعت اثمانه الباهظة مناطق بعينها وبلدات بذاتها قد انطوى مفعوله وانتفت الحاجة اليه.

– لا شك ايضاً وايضاً في ان القوى والتيارات صارت تعتبر ان الاولوية الآن والى أجل غير مسمى هي الانخراط في عملية اختيار رئيس جديد للبلاد خلفاً للرئيس ميشال سليمان الذي لم يتبق له في قصر بعبدا أكثر من شهر ونصف شهر، وهذا الامر يحتاج حكماً الى مقاربة مختلفة، والى خطاب مغاير للخطابات السابقة، ومن مقدماته اللازمة استقرار وهدوء.

وفي موازاة ذلك فإن ثمة من يسأل: هل هذا الاستقرار الذي يتبلور يوماً بعد يوم هو حالة مقيمة أم حالة عابرة بالامكان العودة اليها؟

التجارب المماثلة في لبنان علمت الجميع ان كل الامور تظل احتمالات متحركة، وان الثوابت هي دوماً في المرتبة الادنى، ولكن الواضح ان الاستقرار الحالي حاجة للافرقاء الداخليين الذين خرجوا مهشمين من المرحلة الماضية ووجدوا الآن الفرصة لالتقاط الانفاس ورؤية الامور بشكل أكثر صفاء.

السابق
ركاب الماليزية أحياء وموجودون في قندهار؟
التالي
الأمم المتحدة: شبح الجفاف يهدّد حياة ملايين السوريّين