في أنّ معركة الساحل حدثت من قبل

المعارضة

تأخّر أبو موسى الشيشاني، الذي يُقال إنه أحد قادة الفصائل الإسلامية التي هاجمت كسب، في الوصول إلى منطقة الساحل السوري. والحقّ أن الرجل لا يعدو كونه تجسيداً لأشباح من الشيشانيين وغيرهم من المقاتلين الأجانب، أشباح كانت تؤرق كثيرين من البسطاء في البيئة المؤيدة للنظام هناك، وتُروى طرائف عن حالات من الفزع الشديد جرّاء اقتحام تلك الأشباح قرى نائية لم تُستهدف برصاصة واحدة فعلاً، قبل أن يتبيّن أهلوها مصدر المفرقعات التي أطلقها جيران لهم ابتهاجاً بمناسبة ما.
هذه الأقاويل عن الأجانب الذين يهاجمون الساحل، بمشاركة من «العملاء والمرتزقة» المحليين، كانت سابقة إلى الانتشار على المعارك التي بدأها «الجيش الحر»، عندما لم تكن هناك تنظيمات إسلامية مثل «النصرة» وأخواتها. وهي بالتأكيد لم تكن تستشرف المستقبل إذ تتخيل معركة الساحل على هذا النحو، لكنها بالتأكيد أيضاً كانت تدرك حتمية المعركة يوماً ما، فتبني تخيلاتها على ما هو واقعي بخلاف نسبة كبيرة من أهل المعارضة الذين لم يكونوا يضعون المعركة في حسبانهم آنذاك.
الجدل الذي دار أخيراً في صفوف المعارضة حول فتح معركة الساحل ليس الأول من نوعه، فقد سبقه جدل مشابه تماماً قبل تسعة شهور، عندما سيطرت فصائل إسلامية على مجموعة من القرى في الجبال الساحلية قبل أن يستردها النظام. والجدل يدور في معظمه، كما بات معلوماً، حول رمزية معركة الساحل والتخوف من أن تتحول الحرب بفعلها إلى حرب طائفية معلنة، بينما تتراجع إلى خلف تساؤلات من نوع مدى خدمة معركة الساحل، أسوة بأية معركة أخرى، للإستراتيجية العامة، ومدى أهلية الفصائل المشتركة فيها على الصعيدين القتالي والوطني.
وفق المعارضين الذين يعلون من رمزية المعركة، يكمن رأس الأفعى، أي «النظام»، في دمشق، وينبغي إسقاطه فيها، وعندما يسقط في دمشق فسيسقط تلقائياً في الساحل من دون أن تُطلق رصاصة واحدة. وفق هذا الرأي أيضاً، أية معركة في الساحل ستزيد اصطفاف البيئة المؤيدة حول النظام، وهنا فقط يُشار إلى تململ مزعوم في بيئة المؤيدين لم تُحسِن المعارضة استثماره بسبب حماقتها وتأييدها للمعركة. فضلاً عن ذلك، لا بد من الإشارة إلى ضيوف الساحل النازحين من مدن أخرى «سنيّة» كحلب وغيرها، في دلالة إلى عدم وجود الطائفية ضمن المجتمع السوري.
إجرائياً، ما يعيب التحليلات السابقة أن معركة الساحل بدأت منذ الاقتحام الأول لبانياس والبيضا وارتكاب فظائع فيهما، عندما لم يكن الثوار أطلقوا رصاصة واحدة بعد. ثم بدأ التطهير الطائفي في معركة الحفّة قبل نحو عشرين شهراً، إذ جرى تهجير أهالي الحفة كلهم، قبل أن تعود الميليشيات الطائفية لتضرب مجدداً في بانياس والبيضا بمساندة من ميليشيات طائفية تركية.
استرجاع تلك الوقائع لا يعني حق المعارضة في ردّ مماثل، لكنه ضروري لتوضيح حقيقة فتح المعركة وكيفيتها من أمد طويل، والحديث هنا يدور عن عشرات الآلاف من الذين كانوا ضحية التطهير الطائفي المباشر والواضح.
رمزياً، وهنا لا تعود الجغرافيا بالأهمية ذاتها، بدأت الملامح الطائفية جلية منذ ارتكاب الميليشيات مجازر مثل الحولة والقبير. فالذين ذبحوا المدنيين هناك كانوا يرددون شعارات طائفية لا لبس فيها، وقد وثّقتها كاميراتهم وسرّبوها هم أنفسهم في ما بعد. أي أن الحرب الطائفية المعلنة بدأت فعلاً منذ أمد طويل، ولا ننسى في ما بعد رفع شعارات كربلاء والحسين على مآذن القصير، وكذلك رفع الشعارات الطائفية إياها أثناء اقتحام يبرود أخيراً. نحن أمام سياق طائفي يستحيل إنكاره، والواقعية تقتضي عدم استبعاد ردود فعل من الطينة ذاتها، من دون أن تبني بالضرورة سياقاً ممنهجاً كالفعل المستمر الذي يسبقها، بل إن ما ورد في الاستهلال عن الأقاويل التي راجت بين المؤيدين حول المقاتلين الأجانب وعملائهم المحليين، هو أول تأسيس رمزي للمعركة المقبلة.
أيضاً، الحديث عن الضيوف الآمنين في الساحل لا يجانب الرمزية ذاتها. فهو يتحدث عنهم كضيوف لا كأبناء بلد، ويعلم القاصي والداني أن غالبيتهم من الشرائح الميسورة، أي أنهم يتكلفون نفقات إقامتهم وينعشون الاقتصاد المحلي هناك، أما القلة المعدمة منهم فلاقت اهتماماً إنسانياً من قلة مقابلة من أبناء الساحل، بينما راح الشبيحة يستولون على المساعدات الدولية المرسلة إليهم. لكن الأهم في هذا السياق هو التلميح إليهم كرهان وأنهم سيتعرضون للأذى في ما لو تطورت معركة الساحل، وكتمرين ذهني على المغزى المقصود يُستحضر هجوم الشبيحة الانتقامي على حيّ الصليبة السنّي في اللاذقية إثر مقتل هلال الأسد، على رغم المعلومات التي تفيد بقتله بنيران صديقة.
أثناء الجدل حول معركة الساحل، كانت البراميل العشوائية المتفجرة تستمر في قصف مدينة حلب، وسُجل في آذار (مارس) وحده سقوط 344 برميلاً. والمسألة ليست فقط في المفاضلة بين مدنيي حلب وغيرها الذين يُقتلون وسط صمت عام، ومدنيين آخرين مؤيدين، وإنما في أن أحداً من الطيارين الذين يقومون بمهمات الإبادة لم يتمتع بالحس الأخلاقي ليهرب بطائرته أو بنفسه. لو سُجلت حالة هروب واحدة لربما كانت كفيلة بالتأثير على المزاج الانتقامي العام المؤيد لفتح معركة الساحل بأي ثمن، وكيفما كان، ومن أية جهة أتت.
الإصرار على خصوصية معركة الساحل يصبّ عن قصد أو من دونه في جعلها الطامة التي تهون معها أهوالٌ تعرضت لها باقي المدن، مع أن الحجج التي تُساق تضعف كلما طال أمد الحرب، ومع أن المخاوف تتمحور أساساً حول مواجهة العدالة لا الانتقام. ما حدث حتى الآن أن أصحاب المخاوف يواجهون أسوأها، وهو حال مَن لا يبادر إلى التغلب على مخاوفه بحكمة وتعقل. أما معركة كسب الحالية فلا تأتي ضمن إستراتيجية متكاملة للمعارضة، ولا يُتوقع منها سوى أن تكون تمريناً ذهنياً مبتذلاً على معركة أكبر لن تمنع التمنيات حدوثها، إذا لم تكن المعركة الكبرى حدثت في غفلة منا.

السابق
بين العلمانية وفصل الدين عن الدولة
التالي
حزب الله ينذر اسرائيل بتوحيد الجبهتين ويردعليها من الجولان