حياد لبنان.. أو صراع الهوية والماهيّة

شكَّل عدم بناء المواطن اللبناني وتنمية انتمائه الوطني، خارج إطار الانتماءات الأخرى، أو من تذويبها وصهرها في مكون واحد، وغياب العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية في ممارسة السلطة في عهد دولة الاستقلال الأولى، عوامل وهَن وتنافر بين مكونات المجتمع اللبناني المتعدد والمختلف على تحديد الهوية الواحدة، التي تسِمُه بعد التحرر من قرون الاحتلال العثماني وسياساته القمعية، التي فرقت وميزت بين أبناء المنطقة، وفق منظومة اعتقادها ومذهبيته، وتبعاً لمصالحها في الحكم، واستغلال هذه المنطقة، انسجاماً مع علاقاتها ومصالحها السلطوية والدولية لتأمين استمراريتها وهيمنتها.

إن غياب الهوية الجامعة أو الوعي بها، وعدم الاتفاق على تحديدها وحدودها، من قبل أبناء هذه البيئة الجغرافية (الوطن)، أدى إلى حضور وبروز الهويات المذهبية وتنوعها تبعاً لدرجة وعي كل فئة وتحديد هويتها بنفسها، ورسم إطار انتمائها المحلي والإقليمي والدولي، وذلك باعتماد الذاكرة التاريخية والموروث الديني والثقافي، واستخدامه كرافعة وأساس في بناء هوية فئوية تتكئ على هذا الماضي وتحاول عصرنته، تفتح على التعدد، وتجسّر الهوة مع الهويات الأخرى والانفتاح عليها، من دون قطع مع تراثها في تفاصيله العقدية والفكرية والحضارية والجغرافية.
أسهمت عدالة السلطة، اللاتماثلية، في مجالات التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتكافؤ فرص العمل والوظائف في الدولة الجديدة وغيرها، وأمام الأطروحات الفكرية والايديولوجية لمنظري الكيان اللبناني، والدعوة لقيام الدولة المحايدة، في دفع بعض هذه المكونات إلى التطلع إلى الخارج المتماثل طائفياً ومذهبياً أو مصلحياً، واستحضار البعد القومي العروبي او الإسلامي أو غيره، كبديل، او كوسيلة حماية في وجه الغبن اللاحق بها، وندٍ للطروحات التي كانت السلطة الحاكمة تحاول تكريسها من خلال ممارساتها السلطوية وارتباطاتها الفكرية والثقافية الأجنبية، ما كان يبدو وكأنه محاولة لإلغاء هذه الهويات أو تكريس لهيمنة هوية معينة جديدة وبديلة، تبخس الهويات الأخرى قيمتها وقيمها، أو حتى تقمعها وتقمقمها.
إن عدم قيام السلطة كوحدة بين «أنداد متساوين»، ومن دون اعتبار أو حساب للأرقام الديموغرافية الطائفية والمذهبية في الكيان الجديد، والتي شكك البعض في دقتها او شفافية من قام بإحصائها، خلق سلطة «وحدة مصالح الأضداد» على مستوى القمة، ودفع من شعر بالغبن والإجحاف في قاعدة السلَّم الاجتماعي إلى اللجوء إلى الداخل، وأدلجة المذهبي والطائفي، وتكريسه كحام ومدافع عن حقوقه التي رأى انها تهضم من قبل هذه السلطة، أو إلى الخارج الموضوعي المتمثل بالأحزاب القومية والعلمانية. كما دفعه خوفه إلى الاستعانة بالخارج المتجانس، علّه يؤثر في هذه السلطة لتحقيق بعض مطالبه التي يرى مشروعية في الحصول عليها ونيلها. كما أن البعض الآخر الذي كان يمسك بالسلطة لم يألُ جهداً في التمسك بالخارج الآخر المتجانس معه أيضاً، لإدراكه ضآلة حجم مراكب هويته وضعف أشرعة كينونتها في وجه رياح محيط لجبٍ متجانس ومختلف. ومن هنا سمح بتدخلات من هنا وهناك فتحت أبواب الوطن وشرَّعتها أمام رياح الأرض من جهاتها الأربع في عالم كان يترنح بعد حرب ضروس وصراع بين جبارين كلٌ يريد ان يبسط يديه فوق هذه المنطقة ويصل إلى مواردها الكامنة والموعودة، أو يرى أهميتها الجيوستراتيجية في صراعه مع الآخر.
لم تنجح السلطات المتعاقبة على إدارة مكونات المجتمع اللبناني في توجيهه، أو توحيد أفراده على أفهوم موحد لمعنى الوطن، أو تجعل من الفرد مواطناً في مؤسسة الدولة المدنية الحديثة، يتمتع بالحقوق ويتحمل الواجبات ذاتها، والسبب الواضح في ذلك كان يكمن في أن أفراد السلطة الذين تقاسموا المكاسب والمنافع والسلطة، وفق خريطة مصالحهم، حرصوا على توزيعها حصصاً على أتباعهم ورعاياهم، بما يؤمِّن ديمومتهم فيها وتوريثها، واحتكار المناصب وما يرتبط بها بتمويل عناصر قوتها المادية والمعنوية. وكذلك بدرجة ارتباط كل منهم بمصالح الخارج المختلف، ولكن الحاضر دائماً لتسييل مصالحه هو الآخر من خلالهم. ومع تشابك هذه المصالح بين الداخل والخارج باتت مصالح الوطن معلقة فوق مشجب المصالح الإقليمية والدولية، ومصيره على تقاطع طرقها، وأصبح هذا المجتمع لا يملك زمام أمره، ولا يعرف من يدير هذا الوطن؟ هل هم زعماؤه في الداخل، أو من يحركهم من الخارج؟ أو تواطؤهما معاً؟.
وهكذا كرست أنانيات السلطة وممارساتها، انقسام المجتمع إلى مكوناته الأساسية القديمة، فبدلاً من زرع مفهوم المواطن وريِّه بالعلم والإنماء، غُرست مزارع الرعيّة الطوائفية وتسيجت بالتعصب وتنمية ثقافة التخلف والتزلف والانتفاع، وتمت سقايتها بدماء أبنائها في حروب أهلية استمرت متقطعة منذ الاستقلال، كان يفصل بينها هدنات لرتي وترقيع ما انفتق من ثوب الوطن والدولة بقماش وألوان العلم اللبناني الواحد. ولكن ذلك لم ينفع في ستر عري الوطن وانكشاف عورة هويات المجتمع وعنفها أمام رياح ونار الصراعات والتدخلات الإقليمية والدولية التي أرعدت وعصفت، وما زالت غيومها تغطي فضاء المنطقة وأرضها تحت عناوين شتى واصطلاحات متنوعة متغيرة وفقاً لكل مرحلة. وما يميز أمطارها في المرحلة الأخيرة، تهطال مصطلحات بائدة مستجدة أكثر تصغيراً لمكونات المجتمع، وأقل احتراماً لكرامة الإنسان وبعده الحضاري والإنساني، فبات تموضع الفرد ومظلته الواقية على مستوى رقعة المذهب، وأصبح الصراع على مستوى الشارع والحي، وبذلك تحول الوطن إلى مجموعات صغيرة منعزلة، يخاف بعضها البعض الآخر، ونبت على ضفاف الجهل عوسج ثقافة جاهلية وعلاقات اجتماعية عصبوية تعود إلى مئات السنين، ساعدت وسائط الاتصال الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة في سرعة انتشارها وبلورة مكنوناتها المتخلفة. وتحولت الدولة بتركيبتها العضوية إلى دويلات مذهبية، ومرتع وحام للفساد، والأمن إلى رهينة إرهاب بعض المجموعات الخارجة من بعض صفحات التاريخ القديم السوداء، فخرج قطار الوطن عن سكة الدولة، وأصبحت الدولة غير قادرة على جمع شتات الوطن تحت خيمة سلطتها.
المؤسسة العسكرية فقط، كانت الصوت الجاذب، ومساحة الجمع. وشكلت صمام أمان وأمل، وحالت دون سقوط هذه الخيمة فوق رؤوس الجميع، فحفظت للسلطة بعض هيبتها، وللوطن والدولة ما تبقى من ثوب وحدتها وقماش معناها وللمجتمع بصيص نور وبارقة أمل بحياة مشتركة قادمة.
واليوم، كيف يخرج الوطن من محنته؟ الكل يسأل، أو يتساءل.. هل نتركه احتياطاً إستراتيجياً مرمياً على خطوط الصدع الجيوبوليتيكة لكيانات المنطقة ولعبة الأمم، أم نعيد صياغته وفق إرادة اجتماع الضرورة وتحالفات المصلحة الوطنية ومنطق العصر والواقع؟ إن المصالح هي التي تصنع الأحداث ومن ثم تصنع التاريخ، والتحالفات لا تصاغ وفق العقائد الدينية بقدر ما تصاغ وفق المصالح التي تحققها تلك العقائد.
هل يخرج الوطن في محنته عبر الحياد كما يطرح البعض؟ ولكن، كيف نحيِّد ما لم نحدد؟ أو كيف نحيِّد وطناً ونحن لم نحدد ماهيته، أو نرسِّم حدود أرضه وفضائه ومائه. وهي تتداخل في حدود دول مجاورة، وفي مجاله وفضاء شعبه يرتسم ويتصارع ويتأصل نفوذ دول إقليمية وعالمية كبرى؟ كيف نحيد هذا الوطن وجزء من مكونات هويته العابرة للحدود، ما زال لا يعترف بهذه الحدود المفترضة؟ كيف نحيده، وهذه الهويات لم توحد رؤيتها للدفاع عن مشترك ماهيتها واجتماعها، ولم تتفق على رأي جامع لتمييز الصديق من العدو؟ كيف نحيده وهويات أبنائه قلاع وخنادق، تتقاتل في الحاضر انحيازاً للماضي بكل أخطائه، أو للمستقبل بإغراءاته، ووعوده، وعلى رمية شبكة أو صنارة من شواطئ بحره، موارد موعودة قد تغير ماهية الوطن على خريطة المنطقة والعالم، وهي تتصارع على اقتسام «جلد الدب» وبيعه، قبل اصطياده؟ كيف نحيّده وهذه الهويات تسفك دماءها، تارة باسم الدين، وتارة باسم المذهب، تارة باسم الشرق، وطوراً باسم الغرب، ودائماً دائماً، باسم «الرب»، ولكن أي ربّ؟
أي رب؟ من هنا يجب أن نبدأ!

السابق
مصادر مواكبة للتحقيق دفتردار يعاني جرثومة معدية
التالي
سليمان: لعدم التهاون مع أي مخل