الدين بين المحبّة والكراهية

الدين بين المحبة والكراهية
هناك مراتب مختلفة للحب، تختلف قوة وضعفاً، سعة وضيقاً، غابة وهدفاً، فمحبة التقي تكون لتقواه ولا شرط عليها ولا نهاية لها، بينما محبة العاصي هي كره للمعصية وطموح إلى خلاصه من معصيته، أي عدم إلغائه بالمعصية وصولاً إلى إلغاء المعصية ذاتها.

باستطاعة أي عالم أو مثقف ديني، مسلما أو مسيحيا، وباستطاعة أي متديّن مواظب على الطقوس وقراءة النصوص، من القرآن والإنجيل والسنّة وأعمال الرسل، إلى الكثرة الكاثرة من أدبيات الأدعية والصلوات، أن يأتي بمئات النصوص والشواهد والأدلة التي تعلي من شأن الحب والمحبة وتحث عليهما وتلخّص الدين بهما وتعتبرهما غاية الإيمان وذروته والدليل الحصري عليه. من دون تفريق، فيمن يحب المؤمن بالله، بين شخص وآخر، بين دين وآخر، بين متفق أو مختلف، بين مذهب وآخر، بين بعيد أو قريب، بين تقي أو عاص، بين شقيّ أو سعيد، بين جاهل أو عالم، بين صديق أو خصم وحتى عدو.

على أنّ هناك مراتب مختلفة للحب، تختلف قوة وضعفاً، سعة وضيقاً، غابة وهدفاً، فمحبة التقي تكون لتقواه ولا شرط عليها ولا نهاية لها، بينما محبة العاصي هي كره للمعصية وطموح إلى خلاصه من معصيته، أي عدم إلغائه بالمعصية وصولاً إلى إلغاء المعصية ذاتها.

غير أن القارئ للتاريخ القريب والبعيد، وللحاضر كذلك، يستطيع أن يأتي بآلاف الأدلة على أن العقيدة الدينية قد تحولت أو حولت إلى مصدر أساسي أو أول للبغضاء والكراهية اليت تتجسد ظلماً وإجراماً في حق الجماعات الدينية المختلفة، أو حق الأفراد من الدين الآخر أو المذهب الآخر من الدين الواحد، أو الاجتهاد الخاص داخل المذهب الواحد، ولطالما اقتحمت الكراهية، لأسباب دينية مدعاة، ولأسباب دنيوية حقيقية، مادية أو سياسية أو اجتماعية، لطالما اقتحمت البيت الواحد والأسرة الواحدة والرحم الواحدة، ففتكت بالأواصر والوشائج وقطعت الأرحام التي يرفعها المأثور الديني إلى مستوى موازاة أو مساواة الصلاة في كونها جدار الصراط إلى الجنة وحده وسياجه الذي يعني اختلاله أو إهماله خطراً محققاً للسالكين إلى الجنة، من الوقوع في الهاوية التي تتعالى منها ألسنة اللهب لتحرق الكافرين، ما يعني أن الإخلال بالمحبة، وتحويل المشاعر نحو العدوان والقطيعة لا يقل عقوبة عن الكفر بالله تعالى.

هذا لا يعني أنّ هناك تناقضاً بين المراد والمقصود بحسب النص والتعليم الديني وبين سلوك المؤمنين بهذا الدين على طول الخط، ما قد يعني إذا ما حصل، أن الدين في وادٍ والمتدينين في وادٍ آخر.. ذلك أنّ هناك استثناءات باهرة وباذخة ومتألقة لمؤمنين بلغوا في الحب وفي التعبير عنه درجة ترقى إلى مستوى ملائكي. وإن كان يتميز عن السلوك الملائكي بأنه ناتج عن اختيار إنساني، في حين أن المسلك الملائكي مسلك ضروري لأن الملائكية لا تجد تحديدها وتجسيدها إلا في الامتثال، ومن هنا كان تفضيل المولى سبحانه للإنسان على الملائكة في الاستخلاف، لأن حرية الإنسان وإرادته واختياره، هي الشرط المعرفي والعملي لوضع المقدس في التاريخ، في حين أن الضرورة الملائكية، أي كون الطاعة لازماً ومعرفاً للملائكية، من شانها أن تبقي المقدس خارج التاريخ، حيث لا تاريخ في المحصلة.

لكنّ انحصار الممتثلين لمشيئة الله في المحبة، في الاستثناء، وإن يكن عريضاً، لا يشكل حلاً للمشكلة، مشكلة التناقض الظاهر، وإن كان هذا الانحصار لا يعني أن الآخرين مجردون من المحبة. لكنّها المحبّة المحدودة، أو المحصورة في حيّز مشترك أو ضيّق بين المؤمنين، تدخل العصبية القرابية أو الدينية أساساً فيه، فلا يعم، ولا يدوم. ولو كان الحب مسألة محض وجدانية، ولو لم يكن الكره والبغضاء من عوامل التجزئة والانقسام والتقابل الحاد والحروب وتبادل الإلغاء والنفي، وتعطيل الحضارات وتسميمها وإعاقتها، والتحويل الدائم للشعوب إلى مظلومين وظالمين مع تبادل أو تداول الظلم والمظلومية، لو كان الحب كذلك، ولم يكن الكره كذلك، لما كان هناك من داعٍ للشكوى والخوف من أن يتحول الدين في الحياة إلى نقيضه، ومن كونه رافعة للحضارة إلى كونه هادماً لها، هادماً لأهله وأهل الدين الآخر، أو أهل المذهب الآخر، حيث لا يصب الحب إلا في طاحونة الشيطان والطاغوت، دماً وموتاً ودماراً وتخلفاً وخروجاً من الدين بالدين.

لعلنا، أمام إملاءات البغضاء والتباعد والفصال والاقتتال والقتل، المتعاظمة هذه الأيام بسرعة وقوة عظيمة، مدعوون إلى إعادة قراءة ديننا على حرف آخر، مدعوون إلى إعادة إنتاج دين الحب وعلم الحب ومعرفة الحب وحياة الحب، وتحويل الاختلاف إلى شرفة نطل منها على الآخر المختلف لنعرفه ونعترف به، ونحبه ليحبنا.. وإلا فإن الدين والمتدينين في خطر. ولا إنقاذ للدين إلا بالمتدينين، ولا إنقاذ لهم إلا بالدين.

  • نُشِرَ هذا النصّ في جريدة الخليج بتاريخ  7/2/2005

السابق
الضاحية: الدولة في كنف حزب الله
التالي
كنيسة المخلّص الأثرية: أثرٌ بعد عين