لماذا اهتمامي بأوكرانيا؟

أن أكرر الكتابة عن الآثار الواقعة والمحتمــلة على مصر وسياستها الخارجية نتيجة التطــورات الأخيرة في أوكرانيا، لا يعني أني أبالغ في تقدير أهمية مصر، وإن كنت بالفعل أعتقد أن لموقعهــا وتاريخــها أهــمية في تقرير ما يحــدث لهــا ولمن حولــها، ولا يعــني أني لا أرى أمة غــيرها أو دولة أخرى إلا من خلال منظــورها، وإن كنت أتصور أحيانا أن بعض أحكامــي تصــدر متأثرة بأحوال مصر وظروفها، تماما كــما يحــدث عندما أحكم على أشخاص وأشياء متأثرا بحالتي النفسية والذهنية، وبإدراكي الشخصي لما يحدث حولي.

أهتم بمتابعة وتقدير آثار أحداث أوكرانيا على مصر لأسباب موضوعية لا علاقة مباشرة لها بأوكرانيا، وأظن أنها واضحة. منها على سبيل المثال:
أولا: إننا نعيش في عالم ترابطت أجزاؤه وتداخلت أزماته ومشكلاته وتشابكت اهتماماته وتواصل البشر فيه بدرجات لم يعرف التاريخ الإنساني لها مثيلا.
ثانيا: إن مصر تحديدا، وأقصد مصر الراهنة، تحاول بجهد ملموس وتحت ظروف قسرية وطوعية معا، الخروج من كمون طويل تدهور في بعض مراحله إلى سنوات انعزال، وبينما هي تحاول الخروج من هذا الكمون يزداد شعور القائمين عليها بأنهم أمام عالم غريب: أدواته غريبة وسلوكياته غريبة.
ثالثا: أمام هذا العالم الغريب، كان لا بد لمصر أن تجتهد. تجتهد لتفهم، وتجتهد لتغير، وتجتهد لتقتحم آفاقا غير مألوفة، أو، على الأقل، لم تكن مرئية بعيون تعودت على الكمون والتردد . أكاد على البعد أحيانا، وعلى القرب أحيانا أخرى، ألمس الجهد المطلوب دبلوماسيا لتحريك مواقف وفتح نوافذ وطرق أبواب والقفز فوق أسوار، وقبل هذا وذاك، الجهد المطلوب لنزع الخوف. أعرف أن البعض يجتهد.
رابعا: بعد سنوات كمون وسنوات انعزال جاءت سنوات انشغلت فيها مصر بصراعات ثورة داخلية . انتبهنا إلى صراعات الداخل وأهملنا صراعات الخارج ولم نقدر ضخامة الثمن الذي سيتعين علينا دفعه نتيجة أن تجري صراعات الخارج ونحــن غائبـون عنها. لم نفكر في الثمن إلا متأخرا. حانــت ساعـة اللحاق بما فاتنا والالتفات إلى تعاظم تكاليف الغياب والإهمال.
خامسا: كتب كثيرون فى الأيام القليلة الماضية عن «أثر الفراشة»، هذه الرواية الرمزية عن فراشة رفرفت بجناحيها في الصين فهبت العواصف في الشرق الأوسط. الفراشة التي تعنينا رفرفت بجناحيها مرتين ولكن ليس في الصين وإنما في شرق أوروبا، خاصة في أوكرانيا. رفرفت مرة فهبت العواصف في الشرق الأوسط تحت عنوان «الربيع العربي». وها هي ترفرف مرة ثانية.
كثيرة هي الظروف والأسباب الموضوعية، أي غير المباشرة، التي فرضت على المسؤولين في مصر الاهتمام بتطورات الأحداث في أوكرانيا. فرضت الاهتمام على أنصار التغيير بالثورة والإصلاح وفرضت الاهتمام على أعداء التغيير وأهل الارتداد ، خاصة هؤلاء الذين اكتشفوا أنه ما من أمل في التعجيل بالعودة، إلا إذا استوعبوا بالفهم وغيره تفاصيل الثورة البرتقالية وارتداداتها.
[[[
كثيرة أيضا، وربما أكثر هي الأسباب المباشرة التي تحثني وتحث عدداً غفيراً من المحللين والمفكرين في العالم العربي على الاهتمام بالتطورات في أوكرانيا. من هذه الأسباب اختار بعضاً لعله من بين الأهم والأشد دلالة :
أولا: كلنا، وأقصد المصريين وغيرهم من شعوب المنطقة، استعدنا منذ شهور عادة الاهتمام بروسيا. عدنا وعادت روسيا، أو بمعنى أدق، نحاول نحن والروس العودة إلى التقارب والفهم المتبادل. ولما كانت أوكرانيا، في معظم أبعادها، قضية روسية، كان منطقياً أن تخترق تطوراتها حيز هذا الاهتمام المتبادل. بهذه التطورات الأخيرة تظهر أوكرانيا طرفاً في قضية « النظام الدولي تحت الإنشاء «، وطرفاً في خطط دفاع استراتيجية إقليمية، أي في الشرق الأوسط وشرق أوروبا وما بينهما.
ثانياً: أثارت التطورات الأوكرانية ينابيع فضول لا تنضب، فقد بدأ مسلسل ثورات مرحلة ما بعد الحرب الباردة في أوكرانيا، أو قريبا منها. بدأ أيضا هناك مسلسل الانقلاب على الثورة . بدأ هناك، أو قريبا منها. قبل أيام، عادت عناصر الثورة البرتقالية لتحتل ميادين العاصمة وتسقط حكومة الانقلاب. عادت، ولكن مهلهلة تجر في أذيالها هواجس انفراط الدولة والحرب الأهلية والصراع الدولي. في كييف حاليا رئيس غير شرعي، أما الرئيس الشرعي الذي جاء بانتخابات حرة فقد اختار المنفى مفرا له. وفي القرم، قامت دولة مستقلة باستفتاء شرعي مثله مثل استفتاء أجري في كوسوفو وآخر أجري في جبل طارق وثالث في جزر المالديف البريطانية إسما والأرجنتينية تاريخا ورابع يستعدون له في اسكتلنده.
ثالثا: تتعدد الاجتهادات حول التكتيك الذي سوف تستعمله موسكو في حال صعدت أميركا من عقوباتها ومواقفها ضد روسيا. هل ستلجأ إلى إنهاك الديبلوماسيات الأميركية والغربية في الموضوع السوري؟ هل تفتح للغرب جبهة صراع جديدة في الشرق الأوسط؟ هل تقوم برفع مستوى تقاربها مع دول عربية إلى درجة تحالف عسكري وسياسي؟ الأمر المؤكد في نظري هو أن تطورا على هذا الصعيد يمكن أن يضع الديبلوماسيات العربية في موقف شديد الدقة والحساسية وأمام قرارات لم تتأهل لها أو لعواقبها أغلب الدول العربية.
رابعاً: ظهر فجأة في واشنطن، وعواصم أوروبية عديدة، مفكرون وأكاديميون يدعون الخبرة الطويلة في شؤون الحرب الباردة. وفجأة، اكتظت صفحات الصحف ومنصات الخطابة وقاعات العصف الفكري بهؤلاء الذين عادوا يدعون الى رفع مشكلتي أوكرانيا والقرم إلى مستوى صراعات الحرب الباردة. ما أشبه هؤلاء بمفكرين مصريين وعرب حملوا فجأة في الأسابيع الماضية شعارات نسبوها للناصرية وراحوا يدعون إلى العودة إلى سياسات سبق لمصر ودول عربية أخرى استخدامها لتستفيد من وضع الاستقطاب الدولي بين طرفي الحرب الباردة .
خامسا: يعرف المقربون من مشكلات الطاقة والغذاء في مصر أن استمرار أزمة أوكرانيا يعنى زيادة في أسعار القمح باعتبار أن أوكرانيا تتصدر قائمة الدول المصدرة إلى مصر. يعني أيضا أن أميركا قد تضيف عقوبات جديدة على روسيا تكون نتيجتها صعوبات في تنفيذ تفاهمات السلاح والطاقة بين مصر وروسيا وفي تبادل الزيارات بين روسيا ودول الشرق الأوسط.
باحتلال اراضٍ مختلفٍ على سيادتها بين روسيا وجورجيا، استطاع بوتين تحقيق بعض الاستقرار والأمن في منطقة القوقاز. وباحتلال شبه جزيرة القرم وإعداد الظروف المناسبة لانفصال شرق أوكرانيا، سيكون بوتين في وضع أفضل لتأمين مواقعه على البحر الأسود. وبنجاحه في فرض دور طويل الأجل لروسيا في المفاوضات المتعلقة بسوريا وإيران، تزداد فرص بوتين لاستعادة أو تدشين مكانة لائقة بروسيا في البحر المتوسط.
يبقى أن يعيد بوتين ترتيب أوراقه مع كل من بولندا ودول البلطيق، كي يستطيع أن يقول لشعب روسيا إنه رد حلف الناتو على أعقابه، وأعاد لروسيا هيبتها وكرامتها.

السابق
’الجماعة الاسلامية في لبنان’ على لائحة الإرهاب السعودية أو خارجه؟
التالي
جعجع: سنعمل بكل قوانا كي لا يصل احد من 8 آذار الى رئاسة الجمهورية