عندما كانت أميركا صديقة العرب I

بدأت العلاقة بين أميركا والعرب منذ ان انتزعت أميركا استقلالها من انكلترا سنة 1776. كانت السفن الاميركية التجارية تعبر المحيط والبحر المتوسط الى تركيا العثمانية للتجارة، بما في ذلك مبادلة شراب الرُم الاميركي بالافيون التركي الذي كانت تعيد بيعه في شرق آسيا خاصة للصين. غير أن مدن شمال أفريقيا، بالتحديد الجزائر وتونس وطرابلس، كانت تطلب من السفن التي تمر قبالتها دفع خوة، ما سبب حروباً سميت بحروب البربر (Barbary Wars) دامت بشكل متقطع لاكثر من عشر سنوات انتهت سنة 1816 بإيقاف دفع الخوات وتثبيت حرية تنقل السفن التجارية الاميركية الى تركيا. منذ ذلك الحين أصبحت العلاقة مع الدولة العثمانية والمشرق العربي علاقة صداقة رسمية وشعبية أسس لها التبشيريون، وانطبعت بنظرة رومانسية تجاه العرب والمشرق العربي دامت بشكل او بآخر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

التبشير
كان لدى الأميركيين هم آخر غير التجارة، خاصة لأهل انكلترا الجديدة، ألا وهو التبشير بالبروتستانتية الصحيحة، بروتستانتية الطهرانيين الأميركيين، ونشرها في أنحاء العالم. وأسسوا سنة 1810 «مجلس المفوضين للبعثات الخارجية»، الذي بدأ بعد تأسيسه بسنتين بإرسال بعثات تبشيرية الى آسيا. وبعد أن هدأت الأمور بانتهاء «حرب البربر»، أرسل المجلس أول بعثة الى الشرق الأوسط سنة 1819 مؤلفة من شابين تجاوزا الخامسة والعشرين من العمر هما ليـفاي بارسونز وبلايني فيسك.
كانت هذه البعثة هي الأهم دينياً للمبشرين البروتستانت الأميركيين. ففي خطاب ألقاه قبل الشروع برحلته أمام مجموعة من المؤمنين في «الكنيسة القديمة» في بوسطن، حيث كانت قد انطلقت حرب استقلال أميركا عن الانكليز، شرح بارسونز الهدف السامي للرحلة. «إنّ الذين علمونا الطريق الى الخلاص هم اليهود» … أكد بارسونز «والذي يتشفع لكم اليوم أمام عرش الله … هو يهودي». وأضاف بأنه من الضروري للمسيحيين أن يسعوا لإعادة اليهود الى حكم فلسطين وطنهم التوراتي ووطن أجدادهم مما سيحقق الشرط الرئيسي لعودة السيد المسيح، وعندها سيرى الجميع نور القدس، ليس اليهود فقط بل أيضاً المسيحيون الضالون والمسلمون. أما كيف سيتحقق هذا الهدف فليس من خلال الحروب بل من خلال الإقناع السلمي. فالمبشرون البروتستانت سيصلون الى القدس ويقومون بأعمال مذهلة في طهارتها واستقامتها تجعل اليهود يعودون الى هذه البلاد القليلة السكان ليتقبلوا المجيء الثاني. فانفجر المؤمنون بالبكاء.
وصل المبشران بارسونز وفيسك الى سميرنا (أزمير) عن طريق مالطا في الشهر الأول من سنة 1820. وبعد سنة تقريباً قضياها في تعلم لغات المنطقة، ذهب بارسونز الى القدس حيث وزع كتباً تبشيرية بلغات عديدة ولكنه بعد أربعة أشهر من العمل الدؤوب لم ينجح في إقناع أحد باعتناق البروتستانتية، فعاد الى سميرنا عن طريق البحر وواجه قراصنة في طريقه وعانى من المرض فقصد الاسكندرية للطبابة مع رفيقه فيسك وتوفي فيها سنة 1822 أي بعد سنتين فقط من وصوله الى المشرق، ولم يكن قد بلغ الثلاثين من العمر بعد. أما صديقه فيسك فواجه الإحباط نفسه واعتُقل في القدس لأنه كان يوزع كتبه المقدسة للمهاجرين الأرمن التي اعتبرها القاضي ليست كتباً إسلامية أو يهودية أو مسيحية ولم ينج من السجن إلا بعد أن توسط له قنصلا الانكليز في يافا وبيروت. وفي لبنان واجه المبشرون الأميركيون الإحباط نفسه إذ حاربتهم الكنائس المسيحية ومنعتهم السلطات من التبشير لدى المسلمين. عندها أعيد النظر في الاستراتيجية المتبعة وتحول جهد المبشرين الى التعليم، فأسس فيسك أول مدرسة أميركية سنة 1823 وتوفي في بيروت سنة 1825. وبحلول الستينيات من ذلك القرن كان قد أصبح هناك أكثر من 150 مبشرا بروتستانتيا في المشرق تبنت غالبيتهم الساحقة الاستراتيجية الجديدة التي أسس لها فيسك أي نشر التعليم. ورغم أنّ تلك السنين شهدت حرباً أهلية دامية في أميركا، كثّف هؤلاء أنشطتهم في بناء المدارس والكليات والجامعات وأولها روبرتس كوليدج في تركيا سنة 1863 وأهمها الكلية البروتستانتية السورية سنة 1866 التي أصبحت لاحقاً الجامعة الأميركية في بيروت.
فكرة إنشاء الكلية كانت للمبشر دانيال بلس الذي كان ورفاقه قد تخلوا نهائياً عن الهدف الديني للبعثة وتبنوا الهدف التربوي. في تلك الأوقات العصيبة في أميركا، أي خلال الحرب الاهلية هناك، استطاع بلس أن يجمع مئة ألف دولار اشترى فيها أرضاً في مكان ناءٍ من بيروت ووضع حجر الأساس لبناء الكلية سنة 1866. وأعلن أنّ «أي انسان أكان أبيض أو أسود أو أصفر، مسيحياً أو مسلماً أو وثنياً باستطاعته أن يدخل الكلية ويتمتع بكل ميزات هذه المؤسسة … وأن يتخرج مؤمناً بالله أو غير مؤمن».
يقول سمير خلف في كتابه المرجع «المبشرون البروتستانت في المشرق» (بالانكليزية) الذي نشر حديثاً: «بعد أن فشلوا في تحويل (الناس الى دينهم) تخلوا عن مدارس اللاهوت وعن خططهم لتدريب قسس للكنيسة وتحولوا الى إنشاء كليات وجامعات علمانية للتعليم العالي. وكان لديهم التعقل والبصيرة لتبني نظام التعلم الليبرالي… الذي يحتوي على برامج التوعية، والمدرسة الداخلية، والثقافة الشعبية، والرياضة في الهواء الطلق، وما هو أهم من ذلك كله إنشاء المؤسسات لتعليم البنات».

الرومانسية
جاءَت الأخبار من المبشرين والسواح الأميركيين الذين توافدوا معهم الى الشرق الأوسط ايجابية الى حد كبير، لم تغب عنها النظرة الرومانسية الى سحر المشرق العربي. في هذه الأثناء كان الكاتب والديبلوماسي الأميركي المعروف، واشنطن ارفنغ، في اسبانيا، التي بقي فيها لمدة طويلة تعرّف خلالها الى تاريخ الأندلس وأعجب بالثقافة العربية فكتب أول كتاب لأميركي حول تلك الحقبة بعنوان: «قصص الحمراء» إشارة الى القصر العربي الشهير في غرناطة. احتوى الكتاب على قصص حقيقية وخيالية عن اسبانيا تحت الحكم الإسلامي ونُشر سنة 1832. يعتبر بعض الكتّاب أنّ قصص ارفنغ كتبت بأسلوب استشراقي، بالمعنى السلبي الذي أعطاه ادوارد سعيد لهذا المفهوم، ولكن ما يهمنا هو أنه عرّف الأميركيين بالحضارة العربية وأسس للفكرة الرومانسية لديهم عن العرب، كما أنه دفع آخرين الى الكتابة عنهم بالأسلوب الرومانسي نفسه أمثال اسكندر بوشكين، أشهر شعراء الروس من العهد الرومانسي، الذي اقتبس سنة 1834 من كتاب ارفنغ قصيدته الخالدة بعنوان: «قصة الديك الذهبي الصغير» التي بدورها ألهمت فلاديمير بلسكي، كاتب نص الأوبرا «الديك الذهبي الصغير، (The Golden Cockerel) (Le coq d’or) لريمسكي كورساكوف التي عرضت للمرة الاولى في موسكو سنة 1909.
وتوالت الكتب والفعاليات بالاتجاه نفسه داخل الولايات المتحدة. ففي سنة 1893 مثلاً أقيم أول معرض كبير في شيكاغو الذي أسس لفكرة المعارض الكبيرة في المدن الأميركية. وبحسب وثائق مكتبة «الكونغرس» فإنّ العرض المسمى «شارع في القاهرة» من ضمن المعرض، حيث أديت لأول مرة رقصات عربية، كان الأكثر شعبية بين العروض إذ حضره مليونا مشاهد. وفي سنة 1921 وصلت الرومانسية العربية في أميركا الى أوجها بعد عرض فيلم «الشيخ» من بطولة رودولف فالنتينو الذي أصبح معشوق النساء الأميركيات بعمامته البيضاء وحصانه الأبيض. تبع ذلك سلسلة أفلام في الاتجاه نفسه حتى فيلم «الملك ريتشارد والصليبيين سنة 1954 حيث ظهر صلاح الدين كشخص جليل وأكثر إنسانية من ريتشارد.
وما ساعد على نشر هذه الصورة الإيجابية عن العرب وصول المهاجرين من الشرق الأوسط الى أميركا بأعداد كبيرة بلغت حوالي المئة ألف بين سنتي 1880 و1914، غالبيتهم الساحقة من المسيحيين اللبنانيين الذين كدّوا في أعمالهم، خاصة في بيع الخردوات على الكشه في كل المناطق الأميركية، ما نال إعجاب الفكر البروتستانتي الاميركي، أو أسسوا النوادي الثقافية وعرّفوا الأميركيين على ثقافة بلادهم أمثال نجيب الريحاني وجبران خليل جبران. وفي سنة 1923 نشر جبران كتابه «النبي» الذي انتشر بين الأميركيين بسرعة غير مسبوقة وزاد، بأسلوبه الرومانسي، نظرة الأميركيين الرومانسية الى العرب.
للنص تتمة

السابق
اقفال المؤسسات العامة والبلديات في 25 الجاري
التالي
الحرب تهدد مستقبل 5.5 ملايين طفل سوري