روسيا – أميركا.. الصراع الساخن

مثّلت جزيرة القرم عبر التاريخ ساحة صراع بين الإمبراطوريات، ونقطة تصادم بين الحضارات انتهت بحروب ومعاهدات منذ عهد الإمبراطورية الرومانية إلى الحرب العثمانية الروسية عام 1853م، والتي انتهت بمؤتمر باريس عام 1856م، الذي أكد على حيادية البحر الأسود، وتحوّله إلى بحيرة عثمانية ميدانياً وليس قانونياً، واستعاد الروس نفوذهم عام 1870م أثناء الحرب الروسية – الفرنسية.

يتكررالصراع الأميركي – الروسي بعدما استدرجت أميركا عام 1979 الاتحاد السوفياتي إلى أفغانستان، بعد فشل الانقلاب الذي دبّرته المخابرات الأميركية على الحكم الشيوعي، وقاتلت الجيش الأحمر بـ”المجاهدين” الإسلاميين وتمويل سعودي كما يروي بريجنسكي؛ مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، فانهزم السوفيات في أفغانستان، وانهارت الإمبراطورية السوفياتية والكتلة الاشتراكية في العالم، وأعلنت أميركا نفسها قائداً للعالم.
بعد عقدين من الزمن شاخت أميركا وانهزمت في أفغانستان والعراق، وها هي تترنح في سورية منذ ثلاث سنوات، بعدما عجزت في إخضاع إيران وأعلنت هدنة معها، واتجهت نحو روسيا، علّها تغيّر موقفها وتترك محور المقاومة والممانعة لتسهيل إسقاط سورية وإنهاء ما تبقّى من مقاومة عربية – إسلامية في لبنان، كما أعادت إحياء الثورة البرتقالية التي ولدت عام 2004 ثم خمدت وزُجّ بزعيمتها في السجن بتُهم مالية، وكان الهدف الأميركي من إعادة الحراك الأوكراني ما يلي:
– تهديد روسيا في فضائها الاستراتيجي، والضرب على خاصرتها الأوكرانية وما تمثله من امتداد عسكري واقتصادي (المصانع والغاز..).
– إشعال الحرائق المتعددة حول روسيا، وحصارها بحركات التمرد في جورجيا وأوكرانيا وشمال القوقاز، بالإضافة إلى بعض الحراك المعارض في روسيا، لاستنزافها وتحجيمها وإعادتها دولة ضعيفة.
– ضرب محور المقاومة والممانعة، وكسر التحالف المشرقي الجديد الممتد من الصين وروسيا وإيران والعراق وسورية ولبنان، والذي يشكّل حاجزاً عقائدياً واقتصادياً أمام التمدد الأميركي، ومعه الأوروبي.
– اختبار القوة الروسية؛ هل تجاوزت مرحلة الضعف واستعادت قوتها لحماية مصالحها، أم أنها دولة من دول العالم الثالث؛ تلبس بدلة مرقطة تخبئ جسماً هزيلاً؟
لقد فعلها الأميركيون وتحرّشوا بالدب الروسي في عقر داره لإرجاعه إلى زمن التبعية والتهميش، وكعادتهم بدأوا مرحلة القتال بالوكالة عبر أدواتهم المتطرفين التكفيريين في الشرق الإسلامي، وبواسطة المتطرفين القوميين في أوكرانيا، بشعارات “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” الخادعة، وهم يتحالفون مع أكثر الممالك والإمارات ظلامية في العصر الحديث.
والسؤال: هل سينقلب السحر الأميركي على الساحر؟
راهن الأميركيون على الضعف والتردد الروسي وعدم القدرة على المواجهة وتشتت قواهم على أكثر من جبهة في سورية وأوكرانيا وفنزويلا وكوبا، لكنهم يغامرون وسيدفعون الأثمان الآتية:
– إحراج الروس ودفعهم للتموضع في دائرة العداء والمواجهة بدل الحيادية، وإعطاء المحور العالمي المواجه لأميركا نقاط قوة إضافية، فإذا لم ينحَز الروس نهائياً للتحالف مع هذا المحور فإن المحور الأميركي سيضعف في نقاط المواجهة معه في إيران وسورية ولبنان، مما يريح قوى المقاومة في ساحة المعركة.
– سيستفيد الروس من المواجهة المباشرة في أوكرانيا، فهي أول اختبار حقيقي وميداني لمنظومة بوتين السياسية والعسكرية، والتي تريد استعادة دور روسيا السياسي، والتعويض عن حلف وارسو والكتلة الشرقية، بعدما استعادت روسيا العافية الاقتصادية.
– أول مواجهة مع أوروبا بعد خروج الاتحاد السوفياتي (الروس) من أوروبا الشرقية، مما يهدد الكيانات الأوروبية الحالية، فإذا تمّ تقسيم أوكرانيا (شرق وغرب) وانفصلت القرم، سيمهّد ذلك لتقسيم إسبانيا أولاً، عبر الحركات الانفصالية لإقليم “الباسك” وإقليم “كاتالونيا”، وسيهدد الوحدة البلجيكية “الفلمنك” و”الوالونيون”، ولا ننسى تقسيم دول البلقان، والمتوقع أن تكون دول أوروبا أول الخاسرين، لأن أميركا تورطها في أوكرانيا، ولن تستطيع أوروبا وأميركا الدخول في صراع عسكري مع روسيا، في الوقت الذي لا يستطيع حلف الناتو تأمين عسكريين إلى أفغانستان، ولم تستطع أميركا وقوى التحالف من البقاء في العراق، وفشلت في حصار إيران، وتراجعت نحو المفاوضات النووية، في الوقت الذي تعاني أميركا من أزمة مالية يؤجّلها الكونغرس والرئيس أوباما من سنة إلى أخرى، وترزح تحت الديون المالية الكبرى للصين وغيرها.
المغامرة الأميركية في أوكرانيا والحسابات الخاطئة والمتهورة ستصبّ لصالح محور المقاومة للمشروع الأميركي، لأنه لا خيار للروس إلا المواجهة وعدم التراجع، فأي هزيمة في أوكرانيا ستجعل من روسيا دولة هامشية غير فاعلة ونمراً من ورق، وهكذا تعامل معها أوباما والأوروبيون.
سيتجه الروس نحو التشدد والتكتيك في لعبة شطرنج سياسية وعسكرية لن يربح فيها الأميركيون وحلفاؤهم.
العصر الأميركي إلى أفول والخسارات تتكاثر، ولم يبق إلا وهم الخوف من الأميركيين وحلفائهم، وأول الهزائم الأميركية أنها تستخدم وسائل بديلة لشن حروبها بطريقة ذكية بسبب عجزها عن القيام بالحرب مباشرة وليست المستأجرة كالثكلى، ولن يستطيع الأميركيون استعادة زمام المبادرة على ساحة العالم.

السابق
الحريري على خط معالجة أزمة معامل الغاز
التالي
فورد: نهاية اللعبة في سورية كانتونات