الضاحية تلوّن وتعزف

تحت جسر جادة هادي نصر الله في الضاحية الجنوبية، خرج الناس من رهاب التخفّي والحذر والحيطة، وراحوا ينضمون بعفوية إلى نشاط نظمه «منتدى ألوان الثقافي» بعنوان «جسر اللون»، بهدف إحياء دماء شهداء التفجيرات، بحسب التعريف عن المشروع.

على الرغم من الموت الذي ما زال يهدد أهل المنطقة، لم يثن ذلك الفنانين ولا الناس عن الانضمام لمثل هذه المشاريع، التي تعيد، بين فترة وأخرى، الأمل بحياة أفضل، وأكثر أماناً. ورسالة المشروع الذي خرج بالتنسيق بين المنتدى وفنانين وإعلاميين ومتطوعين، هي «حبنا للحياة التي لن يثنينا عن العبث بتفاصيلها الجميلة أي شيء»، وفق مسؤول المنتدى محمد علوش، بينما يلفت عضو الهيئة الإدارية للمنتدى محمد البندر الى أن الفكرة خرجت بمبادرة فردية وبدعم من بعض المؤسسات التجارية، هدفها تلوين الجسر بجداريات ولوحات تزركش المدينة.
استُهلّ النشاط بكلمات مقتضبة لكل من رئيس بلدية حارة حريك زياد واكد، ونائبه أحمد حاطوم، وسفيرة السلام وحقوق الإنسان وممثلة الفنانين العرب المشاركين ريهام بيطار (سورية)، فاعتبر واكد أنه «بهذا النشاط يعبر الناس عن رفضهم الدائم ما تتعرض له المنطقة». وحيّا المشاركين من مختلف المناطق اللبنانية والدول العربية الذين «جاؤوا ليعلنوا تضامنهم مع أهل المنطقة».
توزع المشاركون على المكان، أخذ كل واحد منهم حيّزاً له. راحوا يخطّون لوحات وجداريات منوّعة، منها ما يتعلق مباشرة بالحدث، وأخرى كانت رسماً حراً، كلوحات تظهر فجوة بين أبنية الضاحية يخرج منها الضوء، وأخرى تصوّر أجساداً منصهرة ببعضها، وبيوتاً مشجّرة تحت الشمس، إضافة إلى عرض صور فوتوغرافية تظهر مشاهد من التفجيرات و«بورتريهات» متفرقة للمصور فضل عيتاني. حتى صار المكان مشغلاً فنياً متكاملاً، بعناصر بصرية جذبت المارة وشجعتهم على المشاركة. غير أن اللافت بين الرسومات كان لوحة جدارية طويلة، تظهر طفلاً جريحاً أثناء انفجار الرويس، محاطاً بالدمار، يمدّ يده الممتلئة بالدمّ، ويكوّرها على شكل سؤال صارخ، عن سبب هذه الوحشيّة. وذلك بعدما انتقى رسامان صورة الطفل بين صور جرحى التفجير ونقلها إلى لوحة زيتية، «لما في وجهه من إدانة». وراح يجول بين الرسامين عازف كمان ليؤنسن بدوره العمل. وتوسّط الجمع نحّات يحفر بجسدين ملتصقين، وقال «أصنع كتلاً بشريّة من الطين حتى يفهم الانتحاريون أن الإنسان أصله من طين، وسيرجع في الموت إلى أصله». وعلق الرسام برنار رنو، من «محترف آثار الشرق»، أنه بالرغم من الوجع، «يخرج اللون من تحت الأرض ويشق طريقه».
في مكان وسط الحدث، يلتفّ صبيّ صغير بصمت مطبق، ويغزو عينيه غضب دفين، بعدما أطّر نظره حول الشاشة الصغيرة التي وضعت على الأرض وتعرض مشاهد من تفجيرات سابقة، استرق شهيقاً من القلب ودثره في المكان، بعدما سرّح نظره إلى الناس وابتسم، بينما تجمهر آخرون بمكان مظلل، حيث تركن سيارة محطّمة على إثر احد التفجيرات، ينهمك المشاركون بغمس ريشاتهم حتى تغيّر لونها من الأسود القاتم، إلى قطعة مزهوّة جميلة، تغطيها الورود والفراشات، وبقع ألوان فاقعة وعبارات ترفض التكفير والإرهاب.
ساجدة شاهين، صبيّة ترتدي التشادور، تحاول أن تشبع شغفها بالحدث طوال الوقت، تدور بين مجموعة وأخرى لتصوّرهم وتحدّثهم وتشجّعهم، تعلّق «كنت أجول بين الركام والجرحى أثناء التفجيرات، وألطّخ أطراف عباءتي بالرّماد وبالدم، والآن جئت بالعباءة نفسها، لألطّخ أطرافها بالألوان».

السابق
تقاطعت المصالح.. فانفجرت بين بعبدا والضاحية
التالي
روسيا ليست حليفة للعرب