حكومة الأضداد

البيان الوزاري الذي تطلب الحكومة على أساسه الثقة من المجلس النيابي فقد وظيفته وأهميته منذ زمن بعيد. حين أصبحت الحكومات المتتابعة صورة مصغرة عن المجلس النيابي انتهى المبدأ الأساسي للفصل بين السلطات وانتهت الرقابة والمحاسبة والمساءلة، كما انتهت وسائل الضغط المتبادلة التي يقوم عليها النظام البرلماني. لا تخضع الممارسة السياسية للقواعد الدستورية بل لتوازنات القوى التي تتحكّم بها الأحزاب الطائفية. الجدل حول البيان الوزاري لا يطاول الأمور المتعلقة بصلاحيات السلطة التنفيذية ومهماتها في ممارسة الحكم وإدارة شؤون الناس، بقدر ما يطاول «سياسات عليا» في أمور يفترض أنها ليست مثار جدل مع تشكيل كل حكومة. أصبحنا في نظام سياسي آخر غير ما يعلنه الدستور. فلنبحث عن قواعد جديدة لهذا النظام.
لا يوجد بلد واحد في العالم تحتل فيه السياسة الخارجية هذا الحجم من التأثير على حياته الداخلية. منذ الاستقلال لم تتوقف العلاقات الخارجية عن إعادة إنتاج انقسام اللبنانيين. معظم الأحزاب اللبنانية الفاعلة نشأت على أفكار لها علاقة بهوية الدولة والكيان وليس على منظور اجتماعي.
الليبراليون دافعوا عن «الكيان والصيغة» واليساريون دافعوا عن «العروبة». لم تكن هناك انتفاضة ديموقراطية بالمعنى العميق للكلمة، ولا انتفاضة اجتماعية. انشغل اللبنانيون بالبُعد الإيديولوجي للسياسات ولم يحسموا فعلاً «نهائية الكيان» ولا مرجعية الدولة. الدولة في الفكر السياسي اللبناني هي النظام السياسي الذي يقوم على توازنات وليست الصيغة المستقرة الثابتة لإدارة المجتمع. هذا الجذر الأصلي للمشكلة اللبنانية يتعرى اليوم أمام نزوع الجماعات الطائفية لاستتباع نفسها إلى المرجعيات الإقليمية. نكاد نفرز ثلاث كتل طائفية تبحث عن حضن إقليمي دافئ.
السنية السياسية، والشيعية السياسية، والمسيحية السياسية التي ابتكرت لنفسها صفة «المشرقية» ارتداداً عن الإرث التاريخي الكياني اللبناني. هذا النزوع يدل بوضوح عن نقص فادح في القدرة على بلورة مشروع الدولة. وهو اليوم أقرب إلى المغامرة الكبرى منه إلى مسايرة الرياح الإقليمية. انهيار الحدود في المشرق العربي لا يمهّد السبيل لإنتاج كيانات أوسع بل يقترب أكثر من احتمالات التفكك والتفتيت. لا يبدو أن لدى الجماعات اللبنانية «الحس التاريخي» أو «الوعي التاريخي» الذي يكبح هذا الاندلاق على الأزمات المجاورة. في أساس هذا الضعف تواكلية سياسية ومالية ومصلحية لتيارات مزجت «الزبائنية» بالعمل الحزبي، واستخدمت العصبيات الدينية والطائفية مرجعية للشرعية. إن تشغيل النزاعات الطائفية هو الوسيلة الأكثر فاعلية في تعطيل النبض الاجتماعي لدى المواطنين. ليست الطائفية مجرد ثقافة عصبية تشتغل على تمايز الهويات بل هي المنظم الأشد تعبيراً عن الامتيازات السلطوية الهادفة إلى ترتيب مواقع اجتماعية.
التنافس السياسي داخل الجماعات لا يلامس أبداً صلاحيات الموقع التمثيلي لها وسلطاته، بل هي تتباهى في الدفاع عن رمزيته وحصانته. هذه التجربة المسماة «توافقية ديموقراطية» لم تقم على بنية مدنية للدولة وعلى حقوق مواطنة كما يحصل عادة في الأنظمة الاتحادية، أو المجتمعات التعددية والمركبة. تجاوزنا منذ زمن بعيد «الفيدرالية الشخصية» إلى نظام من المراتب الطائفية التي تشبه أشكال التمييز المغلق على العرق أو الطبقة أو الدين أو الإثنية. لا تعي القوى السياسية أنها شرعنت بذلك كل أشكال الصراع الطائفي وأسقطت كل ثقافة وقيم ومفاهيم السياسة الحديثة. فما يحكى عن ثوابت ومسلمات وعن أشكال من التضامن أو الاشتراك في المثالات أو معايير الاجتماع «الوطني» سقطت وتسقط كل يوم في الممارسة السياسية النابعة من المحركات الطائفية. فلا غرابة والأمر على هذا النحو أن يبلغ الانشقاق حد الاختلاف والتفاوض والمساومة في مسائل وقضايا يمكن تصنيفها في خانة المكتسبات أو الإنجازات اللبنانية المشتركة أو في خانة الأخطار والتهديدات المشتركة. فلا يمكن لهذا «المشترك» أن يكون كذلك وهو يقع على مجتمع منقسم في الحقوق والواجبات وموزع على خارطة من عناصر القوة المتقابلة.
لن يكون البيان الوزاري ولا مقررات الحوار الوطني ولا أي من وسائل التوليف السياسي إلا امتداداً لثقافات «التكاذب المشترك» أو التسويات الظرفية الآيلة إلى الانفجار طالما أننا بالتعريف نحن مجموعة طوائف متعايشة متنافرة أو متآلفة بحسب مقتضيات الحال السياسية.

السابق
كيف قرأ “حزب الله” الغارة الإسرائيلية وماذا كان ردّه
التالي
هل أحرَق سليمان مراكبه آخر العهد؟