لماذا يبدو «حزب الله» قويّاً إلى هذا الحدّ؟ وما هي مصادر تلك القوّة؟

قد يكون من المناسب، في تحديد الإجابة عن هذين السؤالين، أنْ نُشير أوّلاً إلى أنّ قوّة هذا الحزب، كما تبدو لنا، الآن، هي أقلّ ممّا كانت تبدو عليه، إلى وقت قريب.

ما الذي حدث؟
بَدَهيٌّ أنّ مقدار قوّة طرف من الأطراف لا تكون إلاّ بالنسبة إلى الأطراف الأخرى. وذلك لا باعتبار موضوعيّ خالص بل أيضاً بالنظرة الذاتيّة لكلّ طرف، إلى نفسه وإلى غيره من الأطراف.
فإذا قلنا مثلاً إنّ «حزب الله» يمتلك هذا العدد من الأسلحة التي لا يمتلكها أيّ طرف آخر يحالفه أو يُعاديه فهل يعني ذلك أكثر من القول بأنه يمتلك عدداً أكبر من الأسلحة؟ هل يعني ذلك أنه الأقوى بالضرورة؟ قد يكون «حزب الله» الآن ممتلكاً أكبر عدد من الأسلحة سبق له امتلاكه، ومع ذلك فهو الآن أقلّ قوّة ممّا كان عليه في ما سبق. إنّ عدد الأسلحة، ونوعها أيضاً، بل جودة تدريب من يستخدمها وحسن تنظيمه ليست مصدر القوّة الوحيد للجماعة المسلّحة. هناك مصادر أخرى للقوّة، ومن هذه المصادر الأولى نظرة الجماعة المسلّحة إلى نفسها ونظرة الأطراف الأخرى إليها. الذي بدأ في التغيّر، من سنوات، هو النظرة، نظرة الأطراف الأخرى إلى هذا السلاح. فبعد أنْ كاد هذا السلاح يكون بمثابة سلاح للآخرين أيضاً، أو بعض هؤلاء الآخرين، في الأقلّ، نجده الآن، بعد أنْ كان موضع إعجاب وارتضاء ثمّ خوف وتململ ثمّ تكيّف وتسليم، قد أصبح مجادلاً لا في حدود استخدامه فقط بل في وجوده أصلاً. أمّا نظرة الجماعة إلى نفسها فمن الصعب تعيين درجة تحوّلها، لهذا الوقت، رغم ظهور علامات واضحة على ذلك التحوّل الانعزاليّ في تلك النظرة. لكنّ هذا لا يعني، حتى الآن، أنّ هذه الجماعة قد انحدرت إلى تلك النظرة التي كانت للمنظّمات الفلسطينيّة المسلّحة في آخر عهدها الطاغي، في لبنان، أو تلك النظرة التي كانت للمليشيات اللبنانيّة المستبدّة بجماعاتها قُبيل مؤتمر الطائف.
لكنّ المشكلة، هنا، هي أنّ المشكلة، في الأصل، ليست في وجود سلاح لفئة طائفيّة أو مذهبيّة أو سياسيّة من دون غيرها من الفئات. فهذه نتيجة قد حصلت لا سبباً قد سبق. وهذه الفئات كان لها وما زال لها أنْ تحاول مماثلة «حزب الله» في هذا الأمر. وأخفقت وما زالت تُخفق فيه. المشكلة هي في هذا الإصرار على تجنب الخوض في أسباب وجود هذا السلاح، الأسباب الداعية كما الأسباب المدعوّة، في الماضي وفي الحاضر أو المستقبل.
لا مجال هنا لاستعراض تلك الأسباب كافة، فقد يكفي فيها استعراض السبب الأساس، أعني الوجود الذي هو للدولة. لا في مجال واحد هو الدفاع الوطنيّ او الأمن الداخلي، ممّا له صلة وثيقة إيجابيّة أو سلبيّة بوجود سلاح «حزب الله» واستخداماته، بل في سائر المجالات، من الأمن إلى العدالة مروراً بالعيش الكريم.
يردّد خصوم «حزب الله» كلمة “الدولة” في مواجهتهم لهذا الحزب. ما المقصود بذلك، إذا كان هؤلاء الأنصار للدولة يمنعون قيامها إذْ يمانعون في تجسيد دستورها في قانون تكوين السلطة فيها، أي في قانون الانتخابات النيابيّة، فتكون مُتاحةً لكلّ اللبنانيّين ويكون ولاء اللبنانيّين في معظمهم، بالتالي، ولاء لها من دون غيرها أو ولاءً أعلى لها؟ ثمّ ما المقصود بذلك، إذا كان هؤلاء يمانعون في مواجهة تدخّل الدول الأجنبيّة في الشؤون الداخليّة اللبنانيّة إلاّ إذا كان من جهة غير الجهة التي يوالونها ويطلبون تدخّلها إلى جانبهم؟ أليست المشكلة في «حزب الله» وسلاحه ذات صلة بذاك التدخّل؟ وإذا كان لبعض هؤلاء أنْ يظنّ أنّ موالاته دولاً أجنبيّة هي المقابل الضروريّ لموالاة «حزب الله» إيران فهل يظنّ هذا البعض أنّ له هو أيضاً تلك العلاقة القويّة بتلك الدول وأنّ لتلك الدول قوّة الاستعداد للتدخّل والمساندة لمصلحته أو لمصلحة الدولة اللبنانيّة؟ ثمّ ما المقصود بذلك، إذا كان هؤلاء لا يلتفتون إلى توفير الحدّ الأدنى من مقاومة اللبنانيّين للعدوان، وذلك لا يكون بغير تعميم المقاومة بإسهام كلّ لبنانيّ بالدفاع عن بلاده واجباً لا جدال فيه؟ ثمّ ما المقصود بذلك، إذا كان هؤلاء لا يلتفتون إلى توفير سياسات اجتماعيّة ممكنة اقتصاديّاً واجبة كيانيّاً، فتكون حمايةً لجمهور اللبنانيّين من الافتقار إلى الدول الأجنبيّة وأدواتها اللبنانيّة؟ ثمّ ما المقصود بذلك، إذا كان هؤلاء يُمانعون في ارتقاء اللبنانيّين إلى مرتبة الشعب إذْ يحرصون أشدّ الحرص على النظام الطائفيّ وهو النظام الذي يوفر في المستوى الشخصيّ الاجتماعيّ أساس الأساس في قوّة حزب الله؟ ثّمّ ألم يُدرك هؤلاء أنّ الطائفيّة الدُنيويّة التي يلجأون إليها لا تستطيع الصمود في وجه الطائفيّة الدينيّة التي يستند إليها هذا الحزب، وأنّ الطائفيّة الدينيّة التي يمكنهم الاستناد إليها من جانبهم لن تكون حصيلتها الأولى سوى إزاحتهم هم أنفسهم أوّلاً؟
ما زال «حزب الله» هو القوّة الطائفيّة الأولى في ما يُسمّى بالساحة اللبنانيّة، وإنْ في مسارٍ هابط غير صاعد. وهو في ذلك يستند إلى أمرين: الأوّل علاقته الوثيقة بالساحة الدوليّة وانخراطه العضويّ فيها، والثاني معرفته الأكيدة بعدم جدّيّة أخصامه المحلّيّين وبما هم عليه من القرويّة المتزايدة وهامشيّة موقعٍ قد أنْسَتْه الحوادث. ثمّ يأتي عمله، بمقتضى هذه المعرفة وتلك، ساخراً متهكّماً بأخصامه. ولا شكّ بأنّ هذا المزاج الأخير الذي هو من الاستكبار في مصطلحهم، هو علامة لا على مقدار القوّة، بل على اتجاه المسار الهابط، لا بقدرة الأخصام ومسارهم الصاعد، فهيهاتِ هيهات، بل بطبيعة المشروع، الذي ينطوي، لا محالة، على إلغاء “المقاومة” نفسها بنفسها، فلا يبقى منها سوى جماعة مسلّحة لفئة واحدة من طائفة واحدة، من وجه، وتنظيم خارجيّ لقوّة محليّة، من وجه آخر. ممّا يطرح السؤال الأكبر عن حكم اللبنانيّين أنفسهم بأنفسهم، إذْ إنّ القوّة الأولى، عندهم، تنقض مبدأ حقهم في تقرير المصير (في مستوى العقيدة، أي ولاية الفقيه، أو في مستوى الشريعة، أي النظام الطائفيّ) بينما لا تُثبت القوى الأخرى التي تواجهها ذلك الحقّ إلاّ بالقول الضعيف المتهافت من دون العمل الفعليّ الصريح المناسب. ولعلّ غياب الوعي بهذه الحقيقة أو الرغبة في تجنب مواجهتها هي في أساس التمييز الواهي الذي يلجأ إليه أخصام حزب الله، في نظرتهم إليه، بين المنظّمة العسكريّة “المرفوضة” والحزب السياسيّ “المقبول”، كأنّ هناك إمكان فصل بينهما، في الواقع، أو كأنّ المشكلة، بالنسبة إلى الكيان اللبنانيّ، هي في الأساس، في المنظّمة العسكريّة وليست في الحزب السياسيّ. العكس هو الصحيح. وغيره تستر رخيص.
إنّ ظاهرة «حزب الله» وقوّته النسبيّة ليستا سوى التعبير الواقعيّ المنطقيّ الأبلغ، عن مشكلات الكيان اللبنانيّ (فقدان السيادة والاستقلال) ومشكلات النظام الطائفيّ (فقدان الحريّة والمساواة). ولا وجود لحلول لهذه المشكلات أو تلك إلاّ في مسار يأخذهما بالاعتبار في آن معاً، مسار من الخطوات الجدّيّة، وإنْ متواضعة أو عسيرة.
أخيراً، أجد من المناسب، في هذا السياق، أنْ أذكر لا ذلك البيت من الشعر العربيّ:
“ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركُهُ * تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفُنُ” ،
بل هذا البيت لشاعر أسبق:
“ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركُهُ * رُبَّ امْرءٍ حَتْفُهُ في ما تمنّاهُ”.
ففي هذا البيت، في هذه الشدّة، حكمة يفتقر إليها كلّ أطراف النزاع، في ما يُسمّى بالساحة اللبنانيّة، والتي أصبحت، بفضلهم، ولا فخر، زُقاقاً من أزقّة الحروب أو رصيفاً من أرصفتها، لا أكثر.
أمّا “المدنيّون” أو العلمانيّون” أو “الوطنيّون” أو “الديموقراطيّون” أو “التقدّميّون” أو “الحضاريّون” من اللبنانيّين فالقول لهم واضح بسيط: “لا بّدّ من شيء من الإرادة والجدّيّة، بدلاً من هذا الاسترسال البائس في الشكوى أو التمني”. فالشيء إنما هو بالمشيئة. وإلاّ فمديح اليأس وذمّ الأمل، هو الأولى.

السابق
خيار تسليح المعارضة السورية يسبق استئناف جنيف 2
التالي
تعيين مسؤول إعلامي حزبي في منصب جديد