ما هو مصير طرابلس بعد تشكيل الحكومة؟

قد تتّجه الأمور في المدينة المكنوبة إلى التهدئة ولو إلى حين. لكن بجميع الأحوال، إن كان هذا الهدوء مريح نسبيا فإنّه يعكس أمراً واحداً: أنّ المدينة لا تزال ورقة سياسية "يلعب" بها الأطراف كلهم.

على مدى قرابة ثلاثة أعوام، بقيت مدينة طرابلس ساحة حرب بين باب التبانة السنّي وجبل محسن العلوي. الاشتباكات المرتبطة بالأزمة السورية لم تكن بجميع الأحوال وليدتها بل نتاج أعوام من هيمنة نظام الأسد على المدينة الشمالية التي لا يخلو بيت فيها من حكايا الاغتصاب والاعتداء والإهانة المرتبطة برموز هذا النظام. الأمر الجديد على طرابلس في الأعوام الأخيرة هو اتّجاهها نحو التطرّف وتحويلها إلى بيئة حاضنة للحركات الأصولية وانتشار الأسلحة غير الشرعية و”القبضايات” وقادة المحاور.

لكن يبقى هذا العنف نتيجة وليس من نسيج المدينة القريبة بعاداتها ومجتمعها المحافظ إلى التركيبة السورية الداخلية. فقد جعلت حركة التجارة بين طرابلس وسوريا سكان المدينتين يتبادلان الكثير من العادات وحتّى أنواع الطعام واللّهجة أحياناً. في طرابلس الفقيرة حيث يوجد “قادة” و”زعماء” وأثرياء، يغيب الإنماء كليّا. في أحياء التبانة وجوارها، من باب الحديد وغيره، انتشرت عمالة الأطفال بأجور ضئيلة. هؤلاء الأطفال المغيبون عن المدارس انخرطوا في الأسواق الداخلية وسوق الخضر عتّالين وعمّالا وتجّار صغار لا بد وأن ينتجوا لاحقا شبابً ضالاً يسهل التأثير عليه والتحكّم به.
ألقى الزعماء قبضتهم على المدينة وصار يجيّرون المجموعات المسلّحة لحسابهم إلى أن “كبرت الخسّة” برؤوس الصغار وصاروا قادة. وهذا أمر يتداوله الجميع في الكواليس. فما إن تذكر إسم المسلّح فلان حتّى يقول لك أحدهم: هذا من جماعة السياسي كذا أو السياسي الآخر. ولا شكّ أيضا أنّ مجموعات مجنّدة لصالح فريق 8 آذار موجودة في بيئة التبانة نفسها وهي معروفة. أمّا حيّ جبل محسن الذي يتربّع على رأسه مسؤول الحزب العربي الديموقراطي رفعت عيد فهو مقلب الحكاية الأخرى للعنف. والجميع لديه أسلحة. والجبل أيضا أداة لإشعال فتيل الاشتباكات. يقول مراقبون في طرابلس إنّ الشارع السنّي كان ممسوكا من قبل تيّار المستقبل قبل أن تتضاءل المساعدات المالية وحتّى قدرة التيار على السيطرة على مشايخ المدينة. “ما عم يدفعوا” عبارة سمعها الجميع في المدينة عندما توقّفت أموال المستقبل عن التدفّق. هذا ناهيك عن عوامل قديمة شدّت العصبية السنية على صعيد المناطق اللبنانية كلها وليس فقط طرابلس، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أهالي التبانة واهالي الجبل يتشاركون حالاً واحدا رغم العداء السياسي على صعيد الزعماء: الفقر، البطالة والتهميش الاجتماعي.
هذا الحال ما سهّل استعمال الجبل – التبانة كورقة سياسية بين جميع الأطراف. ففي مقابلته الأخيرة مع بولا يعقوبيان مثلاً، لمّح الرئيس سعد الحريري بشكل مباشر إلى مسؤولية الرئيس نجيب ميقاتي في اشتباكات المدينة لكنّه غفل عن أدوار الآخرين. لكنّ تشكيل الحكومة الجديدة وضع طرابلس الآن في الواجهة، واجهة تيار المستقبل الممسك بوزارتي العدل والداخلية. لم يعد التيار يستطيع أن يغسل يديه من المسؤولية. وإذ تشير بعض الآراء إلى أنّ تسليم هاتين الوزارتين إلى التيار كان هدفه جرّه إلى هذه المواجهة وتهديده بالانفلات الأمني في طرابلس كورقة ضغط داخل القرارات الحكومية، ترى مصادر شمالية أنّ المستقبل، خصوصاً بشخص ريفي، قادر على الإمساك بزمام الأمور.
فاللّواء المحبوب في المدينة يستطيع أن يضمّ قادة المحاور تحت جناحه لتصبح الورقة في يد المستقبل. بدليل أنّ الاشتباكات الأخيرة الّتي سبّبها اغتيال عبد الرحمن دياب من جبل محسن ووالد يوسف دياب المتّهم بتفجيرات طرابلس لم تتوسّع.
الجبل متخوّف من استمرار الاغتيالات، تقول المصادر، وتضيف أنّ ذلك بدا جلياً في المؤتمر الأخير الذي عقده رفعت عيد وقال فيه إنّ مهلة الـ48 ساعة التي أطلقها مهدداً بضرب المدينة لم تكن سوى محاولة لاستيعاب التوتر في الشارع العلوي.
يعود تراجع عيد إلى تخوّفه من النفوذ الشرعي الذي بات بحوزة خصمه المستقبل. لذلك قد تتّجه الأمور في المدينة المكنوبة إلى التهدئة ولو إلى حين. لكن بجميع الأحوال، إن كان هذا الهدوء مريح نسبيا فإنّه يعكس أمراً واحداً: أنّ المدينة لا تزال ورقة سياسية “يلعب” بها الأطراف كلهم.

السابق
أطلاق صفارات الانذار في كافة المستعمرات الاسرائيلية الشمالية
التالي
توقيف 11 لبنانيا وسوريا واردنيا بجرائم مختلفة