«السوسيولوجيا» عندما تقرأ الثورات

يختلف علماء الاجتماع في قراءة أسباب التغيير. نظرتهم إلى الوقائع ومساراتها، تأتي من خارجها. يؤسسون فهمهم انطلاقاً من مقولات  ومفاهيم ومناهج، هي بنت النسق العقلي في اختبار مساراته. قلما نجد عالما سوسيولوجياً جمع عوامل التغيير كلها، ليقرأ بها واقع الحال ويفهم أسبابه وعوامل التبدل فيه

أوْلت «السوسيولوجيا» اهتماماً بالغاً بموضوع التغيير المجتمعي لاعتبارها «أن المجتمع ليس فعلاً مجتمعياً لمجموع من الأفراد فحسب، أو أنه لا يقتصر على شكل أو آخر من التنظيم المجتمعي، إنما هو أيضاً حركة وتغيّر جماعة من الناس عبر الزمن (غي روشيه)، ولذلك أجمع علماء الاجتماع على أن التغيّر يندرج في نسيج الواقع المجتمعي ويكوّن جانباً أساسياً وجوهرياً فيه. غير أنهم اختلفوا وتفارقوا في تحديد عوامله وأسبابه منذ المرحلة التأسيسية للـ«سوسيولوجيا» حتى طورها المعاصر. وما اختلف حوله هؤلاء طبيعة العامل وأولويته في عملية التغيير، في ما إذا كان فكرياً أو اقتصادياً أو مجتمعياً أو ثقافياً… الخ، أو إذا كان عاملاً محدداً أو رئيساً أو ثانوياً، أو أن التغيير يقع نتيجة تضافر العوامل كلها. كما تباينوا في موقفهم من شكل التغيير نفسه، أي من التغيير التدرجي أو الفجائي، ومدى استمرارية هذا الشكل أو ذاك. وأخيراً فقد تمايزوا حول طابع التغيير وحدوده، أي حول التغيير البنيوي الكلي أم الجزئي ومآل كلّ منهما.
وإذا ما رُصد بعض من متن «السوسيولوجيا»، تتكشف تلك الضروب من الاختلاف والتباين، لا بل التناقض بين رؤى العلماء واتجاهاتهم الفكرية في مقاربة موضوع التغيير المجتمعي وتحليله.
في هذا المساق، رأى أوغست كونت أن العامل الفكري هو الذي يحدد مسار التطور المجتمعي والتاريخي. إذ إن تطور الفكر يؤدي إلى تغيير في بنية المجتمعات البشرية. وعلى هذا الأساس عرفت الأخيرة ثلاث مراحل تاريخية كبرى: المرحلة اللاهوتية أو مرحلة الفكر الديني. والمرحلة الميتافيزيقية وهي مرحلة الفكر التجريدي أو الفلسفي. والمرحلة الوضعية التي يسود فيها العلم الوضعي وهي أعلى مراحل التطور البشري. واعتبر كارل ماركس أن التطور التاريخي أو مسار التعاقب من تشكيلة مجتمعية ـ اقتصادية إلى أخرى، يحصل بفعل التغير في نمط أو أسلوب إنتاجها، باتجاه حلول نمط أو أسلوب إنتاج جديد فيها. والتغير هنا ينبع من قانون التناقض الداخلي بين عنصري نمط الإنتاج، بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة، أو بين مَن يملكون ومَن لا يملكون أو بين المستغلِّين والمستغلَّين. ويتبدى هذا التناقض في صراع طبقي يؤدي إلى تغيير ثوروي يطيح النظام المجتمعي ـ الاقتصادي القائم، ويرسي مكانه نظاماً آخرَ أكثر تطوراً. واعتمد هربرت سبنسر نظريته التطورية العضوية في النظر إلى المجتمع. فرأى أن الأخير في حالة حركة مستمرة وسائرة نحو هدف معين. وهذه الحركة تمرّ من صيغة بسيطة إلى صيغة معقدة ومتشعبة. فقسّم المجتمعات إلى أربعة أنواع هي: المجتمع البسيط، والمجتمع المركب، والمجتمع المركب تركيباً مضاعفاً، والمجتمع المركب تركيباً ثلاثياً. وقد أنتج التعاقب التطوري هذا، ازدياد التباين الوظيفي داخل المجتمعات ونمواً مطّرداً في حجمها. وتناول إميل دوركايم العامل الديموغرافي في التغيير المجتمعي، واعتبر أن الكثافة الديموغرافية تؤدي إلى تطور في تقسيم العمل المجتمعي. وهذا يفضي بدوره إلى تحول المجتمعات تحولاً جذرياً. إذ في ضوئه يحدث انتقال من المجتمع التقليدي القائم على أساس التضامن الآلي، إلى المجتمع الصناعي المبني على قاعدة التضامن العضوي. والكثافة الديموغرافية لا تقوم فقط على العدد، بل أيضاً على الكثافة النوعية التي ينتج منها مضاعفة العلاقات المجتمعية وتنوعها وتكثيفها، أي التنشيط أو التحفيز العام، وبالتالي ارتفاع المستوى الحضاري للمجتمع.
أولى ماكس فيبر العامل الثقافي في صيغة القيم الدينية وبخاصة الأخلاق البروتستانتية الكالفينية، أهمية رئيسة في التغيير المجتمعي. وقد أظهر أن هذه الأخلاق تشكل روح الرأسمالية الغربية الحديثة، وتفسّر تطورها والقيم الذهنية التي تصفها وتميزها. بمعنى آخر، إن الرأسمالية لم يكن في مقدورها أن تتطور في الغرب، لو لم تلقَ الدعم والاندفاع من قبل أخلاق دينية مشجعة ومساعدة. ولكي يؤكد ما ذهب إليه، قام بدراسات سوسيولوجية أخرى حول الأديان (اليهودية ـ الهندوسية ـ البوذية)، وكشف أن أخلاقها كانت معرقلة لتفتح روح الرأسمالية، ما جعله يعتبر أن البروتستانية تمثل استثناءً في التاريخ، أي أنها تمثل عاملاً تغييرياً بالغ الأهمية. وخص لويس مامفورد وهنري جان عامل التقنية أو التطور التكنولوجي، بدور مفسّر للتغير المجتمعي، إذ كان كل منهما يدرك تأثيره العميق في تطور المجتمعات، وبخاصة في التمييز بين الفترات الكبرى في الحضارة الإنسانية. لكن بالرغم من الأهمية التاريخية للعامل التقني، إلا أنه يجب أن يفسّر في نظرهما ضمن إطاره الشامل. إذ إن التقنية أو الآلة لا يمكن أن تُفصل عن إطارها المجتمعي الماكروي. لأن هذا الإطار هو الذي يضفي عليها معنى وهدفاً. والواقع أن التكنولوجيا ليست عاملاً تاريخياً يفعل فعله بذاته بطريقة حتمية لازمة، وإنما يتعلق تأثير العامل هنا إلى حد كبير بالمجتمع والطريقة التي تُدمج بها التكنولوجيا والإنتاج في مشاريع وفي أهداف محددة.
وقارب رالف داهر ندورف مفهوم التغيير من باب عامل النزاعات المجتمعية. فساجل كارل ماركس حول مفهوم الطبقة والصراع الطبقي. ورأى أن هذه النزاعات لا ترجع كلها إلى النزاعات أو الصراعات الطبقية. فالأصل البنيوي للنزاع المجتمعي لا يكمن في نظره في التوزيع غير المتكافئ لملكية وسائل الإنتاج كما ذهب إليه ماركس، وإنما في التوزيع غير المتكافئ وغير المتساوي للسلطة بين الأفراد والمجموعات، إذ إن هذا التوزيع الثنائي يفضي بالضرورة إلى نزاع المصالح بين من يمارس السلطة ومن يخضع لها. والمصالح المختلفة بين هؤلاء وأولئك هي في أقصى مداها مصالح متضادة ومتناقضة. فالمصلحة الأهم لمن هم في السلطة هي المحافظة على استقرار الوضع القائم وثباته. أما مصلحة من يخضعون لها، فهي تغيير هذا الوضع أو الانقلاب عليه. ولذلك، يغدو التغيير مرتبطاً بالأصل الثنائي السلطوي للنزاع، لأن السلطة وتقسيمها هما من الضرورات الملازمة للبنية ولسير عمل النظام المجتمعي.
وطرح أنصار ما بعد الحداثة أن المفكرين “السوسيولوجيين” الكلاسيكيين اعتقدوا أن للتاريخ شكلاً محدداً ومساراً مستمراً وسيرورة هادفة. غير أن هذه الأفكار الكبرى قد انهارت وانقرضت في التاريخ المعاصر وأصبحت عديمة المعنى. كما أن فكرة التقدّم في التاريخ، قد غدت هي أيضاً عديمة المغزى ولا يمكن الدفاع عنها. ويضيف هؤلاء أن مجتمع ما بعد الحداثة يتسم بدرجة عالية من التعدد والتنوع. فالعالم الذي نعيشه ونشاهده في وسائل الاتصال الحديثة، زاخر بالأفكار والقيم المطروحة للتداول، ما يعني أننا نعيش في عالم يتشكّل ويعاد تشكيله باستمرار. وفي تلك الأثناء تتعرّض هوياتنا ومفهومنا لذاتنا ومشاعرنا ومواقفنا الذاتية لسلسلة معقدة من التحولات.. ويعتبر ما بعد الحداثي جان بودريار من أبرز المنظرين لقضية وسائل الإعلام والاتصال المعاصرة. وقد خلص بعد الدراسات التي قام بها، إلى أن هذه الوسائل تختلف اختلافاً بيّناً في آثارها وعمق مفعولها عن أي منتجات تقانية أخرى، إذ أدت تأثيراتها، ولا سيّما الالكترونية منها، إلى تحولات عميقة في طبيعة حياتنا. فالتلفاز على سبيل المثال، لا يعرض لنا العالم أو يمثله، بل أصبح يحدّد، ويعيد تعريف ماهية العالم الذي يعيش فيه، ذلك أن هذه الوسيلة انما تنقل لنا ما يسميه بورديار عالم الواقع المفرط الذي يتكوّن من اختلاط أنماط السلوك المجتمعي من جهة، والصور الإعلامية من جهة أخرى. وهي صور تكتسب معانيها ودلالاتها من صور ومشاهد ترتكز مرجعيتها على واقع خارجي. ما يعني بالتالي أن عالم الواقع المفرط يعيد تشكيل الواقع الحقيقي أو ينزع إلى تغييره على النحو الذي تصوره فيه وسائل الاتصال الحديثة…
ورأى ليوتار، أن العالم يمر بمرحلة تتميز بما أسماه الانفجار الاتصالي عن بعد، وأنه يشهد تفكك المذاهب والنظريات والاتجاهات الفكرية الكبرى في المعرفة الأدبية والعلمية. ويعاني من غياب واختفاء وأنساق المعتقدات التي توجه الإنسان في تفكيره وقيمه وسلوكياته وعلاقته بالآخرين. وأن هذه المظاهر كلها تعتبر أهم العناصر التي تميّز مرحلة أو حالة ما بعد الحداثة. أو بمعنى آخر، إن مرحلة ما بعد الحداثة تبدأ من التشكك أو عدم الوثوق في كثير من الأسس والمبادئ العامة أو الكلية التي سادت في عنصر التنوير ووجهت الفكر الحديث. وفي لغة ليوتار، تبدأ بالميل إلى التشكيك في ما يسميه بالحكايات أو السرديات الثقافية الكبرى التي ورثها الفكر الحديث عن ذلك العصر، أو في ما يعتبر أنه إذا كانت الحداثة ترى النظرية العامة أو الكلية انعكاساً للواقع، فإن ما بعد الحداثة ترى على العكس من ذلك أن النظرية لا تقدم في أفضل الأحوال سوى منظورات جزئية عن الموضوع الذي تدرسه أو تقاربه. ذلك أن أساليب العلم الغربي طرأ عليها تغيير جذري نجم عن التقدم الهائل في وسائل الإعلام والاتصال والتواصل الجماهيري، وتطور نظم المعلومات في العالم ككل، الأمر الذي ترتب عليه حدوث تغيّرات في اقتصاديات العالم الغربي التي تعتمد على التصنيع، وازدياد الميل إلى الانصراف عن هذا النمط من الحياة الاقتصادية، وبالتالي ظهور مجتمع المعرفة أو المعلومات. وهو مجتمع وثقافة من نوع جديد…

السابق
الفرنسية الأولى السابقة مغرمة بلبناني
التالي
فتوى سعودية: أساور الطاقة الإيجابية «حرام شرعا»