الخطاب التكفيري والعنف

يُفترض بالموت في سبيل قضية أن يكون استشهاداً، وأن يكون ذلك أرفع الأعمال نبلاً، لكن الانتحاري يربط فعلته بالدين ثم يقتل عشوائياً في سبيل المعتقد؛ مع تصاعد المعتقد يتدنى المستوى الأخلاقي، ويرتكب التكفيري الانتحاري ما تخجل الوحوش من ارتكابه.

لا بد أن البعض يتساءلون: هل هؤلاء منا؟ وهل نحن وإياهم مجتمع واحد؟ يجيب البعض إن لهم بيئة حاضنة. يجيب آخرون إنهم صنيعة أجهزة المخابرات العربية والدولية، مستشهدين بالدور الذي أنيط بهم في تشكيل المقاتلين «العرب الأفغان» في القتال ضد السوفيات؛ إلى أن تطورت الأمور فصاروا منخرطين في القتال ضد الأنظمة العربية، أريد لهم أن يندسوا في الثورة العربية مع الناس، وينتظموا في عداد العمليات الإرهابية التي صارت موضوعاً لحرب عالمية تتعاون فيها الإمبراطورية مع الأنظمة العربية التي لا خيار لها إلا الاستبداد في وجه الحرية، والتي تتحكّم بمصائر الشعوب العربية، والتي ترفضها هذه الشعوب؛ فكيف تكون هذه الشعوب بيئة حاضنة لمن جعلوا أنفسهم أداة بيد القوى التي لا همّ لها إلا تدجين المجتمع العربي الثائر؟

سواء كانوا قلة في المجتمع، خارجة عنه وعليه، أم كانوا تعبيراً عن جزء منه، إلا أنهم ظاهرة لانقلاب الدين على نفسه؛ وربما جاز القول فيهم إن التكفير يحمل منطق الدين إلى نهاياته في اليأس مما يجري على هذه الأرض، لذا فهم يطلبون الانتقال إلى السماء، علّهم يصيبون ما يشتهون. وهل جزاء القاتل، خاصة صاحب القتل العشوائي، إلا القصاص والعقاب في الدنيا والآخرة؟

لكن الخطاب التكفيري أيضاً يحمل المنطق السياسي للطغاة العرب إلى نهاياته. هؤلاء اقتلعوا المرجعية السياسية من المجتمع، سلخوها عن الناس؛ خافوا من الثورة ومن هذا البعبع الجديد (في نظرهم) الذي اسمه الشعب، فأحدثوا فصلاً تاماً بينه وبين السلطة، بينه وبين النظام السياسي. وضعوا السلطة والمرجعية في أنفسهم. اعتبروا ذواتهم مرجعية عليا متسامية. الوجه الآخر لذلك هو وضع السلطة السياسية لدى مرجعية السماء. خلط فادح بين الدين والسياسة، بين مرجعية الدين ومرجعية السياسة، بحيث لا يبقى أحد براء منهم. الخلط بين مرجعية الأرض ومرجعية السماء يبقى أساسياً في الإيديولوجيا السائدة عند العرب. وهو يبقى سائداً لأن أهل السياسة لا يرون سبيلاً للقبض على شعوبهم وإخضاعها إلا عن طريق القبض على السماء. تخالهم جميعهم ينطقون باسم السماء. سواء كانوا متدينين أو غير ذلك. يبقى الخطاب الديني هو السائد في السياسة، هو خطاب امتلاك الحق والحقيقة. والفرق ليس كبيراً بين فريق يعتبر نفسه حاملاً للحق والحقيقة وفريق آخر ينفي الحق والحقيقة عن الذين لا يوافقونه الرأي والموقف. إذا كانت الحقيقة إيجاباً والتكفير سلباً، فإنه يصعب أو يستحيل وجود أحدهما من دون الآخر.

بقي الخطاب الديني مسيطراً على عقل أهل السياسة عندنا، ولو بأشكال مختلفة. هو المكبوت والمضمر الذي لا نستطيع الحديث عنه. المحادثة الجدية تتطلب الجهر بالرأي ونقيضه؛ والحوار بينهما. أليس غريباً كثرة التكفيريين عندنا في حين أنه لا يجرؤ أحد على إعلان كفره؟ يتباهى الجميع بتبني مبدأ حرية المعتقد ولا يجرؤ أحد على تأييد مبدأ الحرية في المعتقد. منطلق الحرية هو كسر أغلال كل المعتقدات الموروثة. لا نصير أحراراً من دون تحطيم الأغلال الفكرية.

يتجرأ التكفيريون على مجتمعنا بأفعالهم الإجرامية لأننا سمحنا لهم قبل ذلك، وعلى مدى طويل، بالسيطرة على الخطاب السياسي والإيديولوجي. يصادرون المجتمع الآن لأننا نحن بقينا أسرى المنطق الذي تأسس عليه الإسلام السياسي؛ والتكفيريون هم أفراخ الإسلام السياسي. لا يتجرأون علينا إجرائياً إلا لأنهم تجرأوا علينا إيديولوجياً. تبنت النخب العربية خطابهم قبل أن يفرضوا عليها الرعب منهم. تبنت النخب العربية التراث؛ وعندما تحوّل التراث إلى سلفية مدعومة بالمال النفطي والمذهبية السلفية الوهابية، لم يبق أمام النخب العربية إلا أن تصمت أو تنضوي، في «المشروع» الجديد خوفاً أو حرصاً على مصلحة.

إن صمت النخب السياسية والثقافية على الخطاب التكفيري، لا بل تبني الخطاب السلفي الذي شكّل بؤرة تفريخ له، هذا الصمت بل التبني المضمر هو في أساس المشكلة الفاجعة التي نرى آثارها الظاهرة أعمالاً تفجيرية انتحارية وحشية.

السابق
قلة الامطار.. بداية مرحلة التصحر ام مجرد سوء حظ؟
التالي
شهداء تفجيري بئر حسن الى 11