ماذا لو كان صراع حضارات فعلاً ؟

في الولايات المتحدة قارب التاريخ نهايته للمرة الثانية. المرة الاولى كانت في العام 1992 بعد انهيار القوة العسكرية السوفياتية والقوة الاقتصادية اليابانية. وقتذاك انفردت اميركا في صدارة العالم عسكرياً واقتصادياً، وكتب فرنسيس فوكوياما وصحبه عن نهاية التاريخ بانتصار الليبرالية، وكتب غيره عن “اجماع واشنطن” كصيغة وحيدة لتقدم الدول.

لم يكد العالم يسدل الستار على القرن العشرين حتى اطلق الرئيس السابق بيل كلينتون، اثناء قسمه اليمين لولاية ثانية، عبارته الشهيرة “القرن الاميركي”. ثم راح المفكرون الاميركيون يبحثون عن سرّ تقدمهم، واعتقدوا ان الديموقراطية المستوحاة من عصر التنوير كانت عاملا، وان الرأسمالية عامل آخر، على الاقل بعد الحاقها الهزيمة بالشيوعية. لكن الاميركيين لم يتنبهوا الى ان الرأسمالية تأتي في اشكال والوان مختلفة، وان تلك التي سادت اثناء اعلانهم تفوقهم كانت “نيوليبرالية” لم يكن مضى الكثير على قيامها.

تلك النيوليبرالية التي بدأت كتجربة صغيرة في العام 1975 ونجحت في قلب نيويورك من مدينة مفلسة الى مدينة تمتع خزينتها بفائض مالي في اقل من سنتين، تبنتها في ما بعد مارغريت تاتشر، وبعدها رونالد ريغان، فالغيا التشريعات المالية، وخصخصا المرافق العامة، وحفزا القطاع الخاص، فانقلب ركود اقتصاديهما نموا. ثم راحت اميركا وبريطانيا تعممان النيوليبرالية الرأسمالية على العالم، فانهارت الدول التي تبنتها الواحدة تلو الاخرى، من تركيا الى المكسيك وغيرها، الى ان وصل الانهيار المالي الى اميركا نفسها في أيلول 2008.

وفيما كانت اميركا تسير في اتجاه انهيارها الاقتصادي، كانت الصين تحقق نموا باهرا، وراحت تقدم نموذجها الاقتصادي مثالا، وهو ما اطلق عليه الصينيون اسم “رأسمالية الدولة”. وترافق تراجع اميركا وصعود الصين مع تراجع الغرب الديموقراطي وصعود دول البريكس: البرازيل، وروسيا، والهند والصين وجنوب افريقيا.

انهيار “النيوليبرالية الرأسمالية” الغربية امام “رأسمالية الدولة” الصينية كان يعني ايضا تراجعا في النظام العالمي الذي أسسه الغرب ويرعاه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

كان ذلك هو العالم الذي تسلمه مَن يسمى بـ”زعيم العالم الحر” باراك أوباما في العام 2009.

وعلى الرغم من الحالة الشعبية التي خلقها أوباما في اميركا والعالم، والتي تمحورت حول شعاري “التغيير” و”نعم نقدر”، الا ان الرئيس الاميركي كان يبدو وكأنه استسلم لقدر الغرب المتدهور اقتصاديا ودوليا، فراح يحث الاميركيين على “العيش وفقا لمقدرتهم” وعمل على تقليص الدور الاميركي حول العالم من زعامة الى شراكة مع المجتمع الدولي، وحذّر سرا وعلنا من صعود الصين وتأخر بلاده فيما بدا وكأن اميركا ايقنت في حينه انها ستفقد صدارتها العالمية وسطوتها.

لكن ما حدث في السنوات الخمس الاخيرة، اي منذ انتخاب أوباما، اظهر ان النظم الاقتصادية وحدها لا تصنع القوى العظمى، وان المحرك الرئيسي لتفوق اميركا والغرب يكمن في الديموقراطية التي تمنح هذه الدول مقدرة هائلة على التكيّف، بطريقة داروينية، فتموت وتتلاشى الافكار التي لا افق لها، وتنتعش بسرعة الافكار الجديدة التي تمتلك المستقبل وترسمه، وانتخاب الشاب أوباما نفسه كان اكبر دليل على ان تفوق اميركا مرتبط بمقدرة على التغيير لا تكترث بتقاليد، ويمكن ان تطيح عائلة كلينتون، ذات النفوذ السياسي الشاسع، بطرفة عين، وان تتبنى مرشحا مغمورا من اصول افريقية، وكأن اميركا لم تعانِ يوما من مشكلة التمييز العنصري.

ومنذ انتخاب أوباما رئيسا، قدمت اميركا كثراً حكموا العالم بأفكارهم، من مارك زوكربرغ ومواقع التواصل الاجتماعي، الى عبقرية استخراج الوقود الصخري، فاختراعات ستيف جوبز وشركة آبل.

غياب امكانية التغيير بدوره هو الذي يبدو انه عطل صعود الصين، التي صار الاقتصاديون يجمعون على قرب تعثرها، فالصين صعدت لانها حولّت نفسها الى مصنع العالم الاستغلالي، ولكن هذه نافذة ذات مدة زمنية محدودة وتنغلق بمجرد ان تتحسن مداخيل الصينيين، فترتفع تكاليف اليد العاملة وتتراجع التنافسية، فضلا عن ان الصين تعاني من شيخوخة في السكان وتناقص في اجمالي عدد العاملين فيها.

امل الصين الوحيد كان مرتبطا بتحولها من دولة نامية الى اقتصاد متطور، وهذا يتطلب امورا كثيرة منها، على سبيل المثال، تقديم اختراعات، والاختراعات تتطلب فكرا حرا، وهذا لا يمكن ان يترعرع في جامعات لا يرتبط التقدم فيها بالجدارة، بل برضى الامين الفرعي للحزب الشيوعي الذي يقرر الترقيات ويراقب المنشورات.

ومع ان التجربة الصينية مازالت تتطور، الا انه صار واضحا ان “اجماع بيجينغ”، الذي اعتقد البعض انه استبدل “اجماع واشنطن”، قد بلغ حده، وانه لا يمكن للصين الاستمرار في التقدم من دون تقويض اسس النظام السياسي الاستبدادي القائم، وهذا ما لايبدو انه سيحصل في المستقبل القريب.

وكما الصين، كذلك روسيا وايران وغيرها من الدول. كلها تحاول تصوير الديموقراطية الغربية وكأنها فكرة هجينة في مجتمعاتها، وتصرّ على خصوصية مزعومة لانظمتها السياسية، الى حد ان ايران تحاول عزل نفسها عن شبكة الانترنت العالمية وخلق شبكة ايرانية بديلة بحتة، وهذا مثال واحد على كيفية قتل الافكار وعدم السماح بتلاقحها خوفا من التجديد ورغبة في عدم التغيير. لكن من لا يتغير، يموت، او هكذا قال داروين.

اما القول ان روسيا وايران والصين ترفض تبني الآداب المجتمعية للحقبة الفيكتورية، التي انتشرت في الغرب مع عصر التنوير والثورة الصناعية، فهو امر مفهوم، ويمكن الحفاظ على اي خصوصية مجتمعية مع تبنٍ كامل للديوقراطية بمجرد فهم دور الدولة والفصل بين الحيزين العام والخاص.

ولكن ان تتذرع الانظمة الديكتاتورية في هذه الدول بالخصوصية المجتمعية لابعاد الديموقراطية عن شعوبها، فهذا لن يؤدي الا الى استمرار تأخر هذه الدول وتفوق الغرب وانفراده بصدارة العالم.

اذا، بعيدا عن سوريا والعراق، وبعيدا عن بحر الصين واوكرانيا، وبعيدا عن مجلس الامن ومصادر الطاقة، هو في الاساس صراع فكري بين عصر التنوير وحريته وديموقراطيته وبين ومعارضيه بأفكارهم المختلفة والمتراوحة بين “رأسمالية الدولة”، و”جمهورية ولاية الفقيه”، و”المبايعة”، و”الديموقراطية التوافقية”، و”الديموقراطية الشعبية” على اشكالها. هو صراع بين شعوب تتسابق في ما بينها لتقديم الاختراعات حتى يحصد المخترعون ثروات طائلة، ومجتمعات تبيع ما في باطن الارض وتنفق على انفسها فتشق طريقا في الصحراء لاعتقادها ان المخلص سيأتي يوما ويسلك هذه الطريق التي لا تؤدي الى مكان.

اذا لم يكن هذا صراعا للحضارات، فماذا يكون؟

السابق
عقل فقيه: لبنان لم يقصّر بحقي
التالي
الحكومة الجديدة والخطاب التأسيسي لسعد الحريري