الاعتدال والمفاوضات

احتفالات الذكرى 35 للثورة في إيران، شكّلت مناسبة شعبيّة واحتفاليّة كما كل السنوات السابقة. ما ميّز احتفالات هذا العام، الارتفاع الواضح لمنسوب الثقة بالنفس لدى الرئيس حسن روحاني، رغم التضخّم غير المسبوق منذ انتخابه في 14 حزيران 2013، في مناهضة خطّه ومساره السياسي بطريقة غير مباشرة في الكثير من الأحوال. هذا التطوّر ليس بارزاً على الصعيد النفسي أو الشخصي فقط، وإنّما في اعتماد روحاني “خريطة طريق” واضحة، لإرساء بنى “الجمهورية الروحانية”، هذا في مرحلة يبدو فيها مبدأ “الدولة” يتقدّم على “الثورة” بقوّة وثبات، بكل ما يعني ذلك من ارتدادات بعضها زلزالي على السياسة الإيرانية داخلياً وخارجياً.
الأسبوع المقبل تبدأ المفاوضات بين الجمهورية الإسلامية في إيران ومجموعة 5+1 في نيويورك. ربما مكان المفاوضات أثار الشكوك والمخاوف لدى المتشدّدين، فرفعوا أصواتهم إلى درجة تحوّلها إلى “قنابل صوتية” غير مسبوقة، ولا شك أنّ الجناح المتشدّد في الجمهورية والممسك بمفاصل أساسية في الدولة يعرف جيداً أنّ المفاوضات الجانبية مع الذي كان “الشيطان الأكبر”، أي الولايات المتحدة الأميركية، أهم بكثير من المفاوضات العلنية. وإذا كانت الاجتماعات السابقة قد سمحت لوزير الخارجية جواد ظريف بالتباحث مباشرة مع نظيره الأميركي جون كيري، فماذا عن نيويورك التي تؤمّن “أبوابها الخلفية” كل الضمانات لمفاوضات متعدّدة، خصوصاً وانّ ظريف هو “ابن نيويورك” التي يعرف كل منافذها ومفاصلها.
من الطبيعي جداً خلال “مفاوضات بالنار” أن يدقّ كل طرف من الطرفين يده على الطاولة للتحذير أو لرفع المطالب وتغيير بعضها عدداً ونوعية. واشنطن قالت “إنّ كل الخيارات ما زالت على الطاولة” وأرفقتها بحظر جديد على بعض الشخصيات والشركات الإيرانية.
الردّ الإيراني جاء من الطرف الأكثر تشدّداً والذي يشعر أنّه كلّما تقدّمت المفاوضات خطوة إلى الأمام تراجعت مواقعه خطوة إلى الوراء، حضوراً ونفوذاً. الجنرال رحيم صفوي المستشار العسكري للمرشد آية الله علي خامنئي رأى في التحذير الأميركي “زئير أسد عجوز خائف”. علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى (الذي يعيش يومياً تراجعاً ملحوظاً في موقعه داخل السلطة) وصف الأميركيين بأنّهم “أنذال وإنتهازيون مستكبرون”. الجنرال حسن فيروز ابادي رئيس الأركان هدّد بأنّه “لن يترك أي ساحة للأعداء إلا ويضربها”، أيضاً رحيم صفوي هدّد بأنّ “بدء أي حرب على إيران يعني أنّ قوات حزب الله في إيران، وحزب الله اللبناني سيدمّران النظام الصهيوني (الملاحَظ أنّه لا يقول سيدمّران إسرائيل)”. أمّا المرشد الذي له كلمة الفصل فإنّه خاطب المؤتمر العام لرابطة الاتحاد الإسلامية للطلبة في إيران بقوله “إنّكم الضباط الشباب في ساحة الحرب الناعمة”. من الواضح جداً أنّ المرشد تفادى سماع “طبول حرب المتشدّدين” واكتفى بالتحذير من “الحرب الناعمة” وهي حرب قائمة لأنّها تجمع حرب الظلال (المخابرات) والحروب على “البوابات القومية” في إيران والتي كان آخرها خطف خمسة جنود على الحدود مع باكستان.
أيضاً ربما تقرير صندوق النقد الدولي الذي عقد مؤخراً ندوة مهمة حول الوضع الاقتصادي في إيران والذي وصل إلى خلاصة مقلقة لكل الإيرانيين رفع منسوب القلق، إذ أكّد أنّ المقاطعة الاقتصادية الغربية “أدّت إلى نقاط ضعف بنيوية.. ذلك أنّ نِسَب التضخم والبطالة مرتفعة، فيما تبدو على قطاعات الشركات والمصارف مؤشرات ضعف”. بعد عرض “الداء” قدّم الصندوق “الدواء”، فأكد “انّ إيران الآن عند مفترق طرق وعلى سلطاتها الجديدة الانطلاق في تطبيق سريع وناشط لإصلاحات جذرية للأطر العاملة التي تستند إليها أسواق السلع والعمل والاقتراض”. باختصار الانفتاح على عالم الأسواق.
ماذا عن الرئيس حسن روحاني؟ في خطابه الجماهيري المميّز في ساحة ازادي (الحرية)، وكلامه أمام السفراء الأجانب، شدّد أولاً “أنّ بلاده حققت مكتسبات ضخمة في المفاوضات وعلى القانونيين إطلاع الرأي العام عليها”. ولا شك أنّ هذا التوجّه الروحاني يأتي بعد مطالبة المرشد الجميع “بترك الحكومة تفاوض والتخفيف من انتقاداتهم، بعد هذا يمكن عرض “أعمدة بناء” “الجمهورية الروحانية”. قال أمام الإيرانيين:
* بعد أن دغدغ روحاني أولاً المشاعر القومية للإيرانيين فقال إنّ الإيرانيين سيلقنون المعتدي درساً قاسياً في حال تعرّضت إيران لأي اعتداء.
* “انّ انتصارنا تحقق بفعل وحدتنا وعلى كل الأجنحة التطلّع إلى الأمام وعدم البقاء أسرى الماضي”، هذا التوجّه كما يبدو محاولة جدّية لفتح الباب أمام المصالحة مع التيّار الإصلاحي وإطلاق سراح مير حسين موسوي بعد أن أعيد الشيخ مهدي كروبي إلى منزل للإقامة فيه دون حق التجوّل.
* “انّ انتصار الثورة لم يكن انتصار السبق على السيف وإنّما كان انتصار الدم على السيف”.
* “انّ هذا اليوم أي 11 شباط هو “تجسيد لانتصار حركة الاعتدال الشعبية في جميع أنحاء الوطن”.
أمّا أمام السفراء الأجانب فإنّ رسالته للخارج تضمّنت انفتاحاً واضحاً، إذ قال:
* “إيران مستعدّة للتفاوض على اتفاق شامل ونهائي مع الدول الست بخصوص برنامجنا النووي”.
* “نعمل لإيجاد شرق أوسط خالي من السلاح خصوصاً السلاح النووي”.
* “مستعدون لإبقاء الأبواب مفتوحة أمام المفتشين”.
في الوقت الذي كان الجنرالات والمتشددون يدقّون “طبول الحرب”، خرج النائب محمود نبويان باعترافات تُسقط كل دعاوى التشدّد عملياً، والملفت أنّ كلامه أمام “معسكر اتحادات الطلاب” تحت مسمى “الجهاد الأكبر” نشرته وكالة “فارس” المقرّبة من “الحرس الثوري” وفيه قال بعد أن هدّد بـ”قوّة حزب الله الصاروخية” تضمنّ اعترافاً خطيراً بالنسبة لإيران، إذ قال “إنّ إيران لا تبيع اليوم أكثر من 700 ألف برميل نفط يومياً بدلاً من ثلاثة ملايين”، وأنّ “وزراء أحمدي نجاد كانوا يبكون في الجلسات الوزارية الأخيرة نتيجة لشدّة الحصار وضخامة العقوبات”.
هذا الاعتراف العلني، يؤكد أنّه ليس أمام المرشد خامنئي وجميع القوى السياسية الإيرانية إلاّ الانخراط في مسار الاعتدال الذي هو عنوان الجمهورية الروحانية.

2

السابق
ظلال جوزف حرب
التالي
تحطم عدد كبير من زجاج السيارات في الزهراني جراء حبات البرد