الجيش في مواجهة الإرهاب: لا مكان للغطاء السياسي

تعكس الإجراءات المتخذة في محيط وزارة الدفاع صورة حقيقية لحجم المخاطر الأمنية التي تطوّق معظم المناطق. تبدو القيادة في اليرزة متحسّبة لكل أنواع السيناريوهات الامنية، بما فيها استهداف الوزارة والمراكز العسكرية.
يدلّ على ذلك، انهماك العمال على مدخل وزارة الدفاع بتركيب آلة ضخمة (scanning X-ray) قدّمت هبة للجيش، وذلك من ضمن الاجراءات الاحترازية التي تأخذ بالاعتبار كل التهديدات الامنية على اختلاف مستوياتها.
ليس فقط العناصر العسكرية المنتشرة بكثافة غير معهودة في نطاق اليرزة ولا التحصينات بأكياس الرمل على الحواجز هي العلامة الفارقة الوحيدة، فحركة الوفود الاجنبية الديبلوماسية والامنية باتجاه الوزارة لا تهدأ. أكثريتها للاستطلاع واستكشاف المشهد الأمني من مركز “الداتا” في مكتب قائد الجيش جان قهوجي.
آخر دفعة كان الوفد البريطاني الذي حطّ امس في اليرزة. وهو، كما بقية الوفود الزائرة، يقوم بجولة على باقي الاجهزة الامنية، ويأتي أساساً من أجل استيضاح حركة الدخول والخروج للمسلّحين من لبنان باتجاه سوريا والعكس.
وغالبا ما تطلب الوفود الاجنبية، ومن ضمن مهام التنسيق، معرفة المتيّسر من المعلومات بشأن مصير المسلّحين الذين يقاتلون في سوريا، واذا قتلوا هناك أو قدموا الى لبنان، أو خرجوا من سوريا باتجاه لبنان ومكثوا فيه لفترة وجيزة ثم عادوا الى الداخل السوري لاستكمال القتال أو بلد آخر، واذا ما استخدموا أوراقا مزوّرة للتنقل.
كما تبدي هذه الوفود أهمية استثنائية لمعرفة عدد الأجانب الذين يشاركون في القتال على الأراضي السورية وحركة تنقلاتهم، ممّن يحملون جنسية الدول التي تمثلها هذه الوفود. ففي الوقت الذي كان فيه الوفد البريطاني يجول بين المرجعيات الأمنية في لبنان، أكد مسؤولون بريطانيون أن رجلا بريطانيا يقف وراء الهجوم الانتحاري على السجن المركزي في حلب الذي وقع الأسبوع الماضي.
حال الاستنفار القصوى في المؤسسة العسكرية تتزامن مع دخول الازمة السورية عامها الرابع بدءاً من شهر آذار المقبل، ومع تعثر مفاوضات جنيف، واقتراب معركة يبرود من الحسم، وسيطرة رهاب السيارات المفخّخة والانتحاريين على الداخل اللبناني، وتوسّع دائرة استهداف الجيش، وارتفاع منسوب العمليات الامنية النوعية لتوقيف مطلوبين ومتهمين بالإرهاب، آخرهم ماجد الماجد وعمر الأطرش الذي أدت اعترافاته الى إلقاء القبض على نواف الحسين في البقاع من قبل استخبارات الجيش. يضاف الى كل ذلك، دخول اللبنانيين مدار الفراغ المنظّم الذي قد يصل موسه الى رقبة الرئاسة الاولى.
حتى الساعة لا يتعاطى الجيش مع الساحة اللبنانية بوصفها “ساحة جهاد”. صحيح أن التهديدات الامنية تؤخذ كلها على محمل الجدّ، وتتصرّف القيادة على أساس أنها وسط مواجهة حقيقية مع التنظيمات الجهادية الابرز: “كتائب عبدالله عزام” و”داعش” و”جبهة النصرة”، ولا تستخفّ بتغريدات “لواء الأحرار السنّة بعلبك” على “تويتر”، وتدرك أن في المخيّمات مجموعات هي خزان للفكر التكفيري، إلا ان “مقوّمات” الحالة الجهادية “المنظّمة” والمكتفية ذاتيا لم تكتمل معالمها على الساحة اللبنانية، على الرغم من تكاثر الانتحاريين.
وبالتأكيد ثمّة عامل أساسي يواكب اليوم عملية الاستنفار الأمني، وهو عدم وجود غطاء سياسي يغطّي المرتكبين والمدانين باتهامات بالارهاب.
يكفي الركون الى عملية توقيف الشيخ عمر الأطرش التي لم تلق اعتراضا من جانب جهات سياسية كانت عادة تطلق العنان لصراخها التجييشي، وذلك بسبب وجود أدلة ثبوتية تدين الأطرش بكل الاتهامات الموجّهة اليه.
وبفعل غياب هذا الغطاء قامت “هيئة علماء المسلمين” بـ”الواجب” والذي دفعها الى لقاء المفتي محمد قباني شخصياً.
ويجدر القول ان الاعتصام الذي نفّذته أمام مقرّ وزارة الدفاع كان الأول من نوعه الذي تشهده هذه البقعة العسكرية.
من جهة كان رئيس الهيئة الشيخ عدنان امامة، المعيّن حديثا، يحاول إثبات وجوده، ومن جهة اخرى رسا المشهد الاعتراضي على تزويد “العلماء المسلمين” بما يكفي من المعلومات التي تؤكد تورّط الأطرش، وبكلام حاسم من جانب العماد قهوجي، بأن التوقيفات لا تحصل بناءً على ما يجول في الأذهان من أفكار وعقائد بل استنادا الى ما يقوم به المتهم من ارتكابات وجرائم مثبّتة بالأدلة. وبالتأكيد فإن حالة الشيخ أحمد الأسير تشكّل دليلا صريحا على هذا التوجّه لدى القيادة.
هو الكلام نفسه الذي قاله قائد الجيش قبل أيام خلال لقائه الدوري السنوي مع الضباط، والذي تأخّر قليلا عن موعده هذا العام، بسبب التطوّرات الامنية. واللافت انه شمل لأول مرة ضبّاطا من كل الرتب، ولم يقتصر على كبار الضباط، ووجّه من خلاله قهوجي رسالة أساسية مفادها “الجيش في قلب معركة حقيقية بوجه الإرهاب وتفكيك خلاياه”.
ومع تنشيط لغة المؤتمرات لدعم الخطة الخمسية لتمويل الجيش ووضع الهبة السعودية على سكة التنفيذ من خلال الزيارة الأخيرة لقهوجي الى الرياض، تتفاءل اليرزة بقرب الانفراج بالمال والسلاح، لكن اليوم لا تزال المؤسسة العسكرية تخوض إحدى أهم المواجهات القاسية منذ اندلاع الازمة في سوريا “بالموجود” وبالمتاح من إمكانيات.
وفي مقابل تمكّن الجيش من تنفيذ العديد من العمليات الامنية التي أدّت الى توقيف مطلوبين، وإبقاء مناطق التوتر، ان كان في المخيمات أو طرابلس، تحت السيطرة بالحدّ الادنى، إلا أن ثمّة معطى يلعب بقوة ضد الجيش في مشروع مواجهة الإرهاب والتصدّي له.
في عرسال اليوم مسلّحون سوريون تحت مسمّى “النازحين”، وبين عرسال ويبرود ممرّ مفتوح ثمة استحالة لوجستية وأمنية لجعله تحت رقابة الجيش.
في شباط من العام المنصرم استُشهد النقيب بيار بشعلاني والرقيب ابراهيم زهرمان خلال تنفيذ عملية اعتقال المطلوب خالد حميد. ما لم يكشفه بيان الجيش آنذاك، هو أن عدد منفّذي الكمين المسلّح بلغ أكثر من مئتين في منطقة جردية حدودية لم تتمكّن القوى العسكرية من توقيف مطلوبين فيها. كان هذا قبل نحو عام، اليوم يمكن تصوّر المدى الذي بلغته سيطرة المجموعات المسلّحة في بقعة هي خارجة تماما عن سيطرة الدولة.
ولا يبدو، وفق المؤشرات، أن دخول لبنان نفق الانتحاريين سيكون ظرفيا. لا المعطى الاقليمي الدولي ولا تطورات معركة يبرود يسمحان بالقول إن لغة التفجيرات ستتوقف قريبا.
بعد معركة القصير المفصلية التي أدت مشاركة “حزب الله” فيها الى تغيير نوعي في مسار الحرب، لا يتوقع ان تكون تداعيات معركة يبرود أقل وطأة على الداخل اللبناني.
وباعتقاد المراقبين، فإن تركيز العمليات الإرهابية على مناطق “حزب الله” يصيب أكثر من هدف، بينه الضغط على الحزب للانسحاب من سوريا، وتأليب بيئته الحاضنة عليه.
وفيما ترجمت التهديدات بحق المناطق المحسوبة على الحزب، فإن الجيش يأخذ في الحسبان إمكانية تكبير دائرة الفوضى عبر استهداف مناطق اخرى لخلق ردات فعل ضاغطة على “حزب الله”، ولخلق أمر واقع أمني يوحي أن السيطرة هي لمصلحة من يقومون بالتفجيرات الإرهابية.

السابق
حيّرتم ربنا فخامة الرئيس!
التالي
سيارة عرسال كانت مفخخة بـ 104 كلغ من المواد المتقجرة