شركات التنقيب والإستحقاق الرئاسي

حظيت وثيقة بكركي بتأييد واسع لدى الفعاليات الروحيّة والسياسيّة، لكنها لم تبلغ مرتبة الإجماع. وللتدقيق، يمكن القول إنّ المرحّبين ثلاثة، أحدهم أيّدها بصدق وحماس واندفاع، والثاني كان مراوغاً، والثالث قال: نعم، ولكن… وهذه الأخيرة تعني كثيراً، إنها بمثابة جملة إعتراضيّة على كلّ ما يجري، وهدفها واضح: أيّ نظام نريد لهذا اللبنان؟!

لم يرفع “حزب الله” الصوت عالياً في وجه الوثيقة، لأن لا مصلحة له في ذلك، وتحديداً في هذا الظرف الدقيق والحسّاس، كونها تعبّر عن “وجهة نظر”، وليست مُلزمة، أو ناجزة برسم التطبيق الفوري، فضلاً عن أنّ أبواب الحوار والتواصل مفتوحة ما بين الحزب وبكركي، أضف الى ذلك أن التطورات المتسارعة داخل العراق وحوله، وداخل سوريا وحولها، وداخل لبنان وحوله تستدعي اليقظة، والتريّث في إطلاق الأحكام، وحرق المراحل، او تبنّي مواقف تسيء أكثر ممّا تنفع في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة.

لكن عندما يجدّ الجد، فإنّ للحزب، وربما لغيره أيضاً، مواقف ستأخذ طريقها بقوّة نحو العلانيّة، إنطلاقاً من أي نظام يريد اللبنانيون؟ هل يريدون نظاماً طائفيّاً مذهبيّاً؟ أم يريدون نظاماً علمانيّاً، الولاء فيه للوطن لا للطائفة او المذهب؟ يُفترض أن يكون هناك جواب على كلّ سؤال للخروج من حالة التكاذب والمراوغة التي أنهكَت الدولة، وعطّلت المؤسسات، وأباحَت الفساد المالي والأخلاقي، وعمّت الفوضى، ومع الفوضى توطّن الإرهاب، ومع توطّن الإرهاب إستوطن الفراغ والقلق على المستقبل والمصير؟!

إن اللبنانيين يتهرّبون من هذه الأسئلة كي لا يطالبوا بالأجوبة، ولكن الغالبيّة تقرّ ضمنيّاً بخطورة المأزق، وبدلاً من أن تبادر الى المواجهة، تتحيّن فرَص الهروب الى الأمام تاركة المعالجات رهن الظروف والمستجدات، او تنتظر ما يحيكه الخارج من عباءة يرتديها اللبنانيون برضاهم، او رغماً عنهم، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ألم ينتظر اللبنانيون ضوءاً أخضر خارجيّاً للتفاهم على قانون انتخاب، ولمّا تأخر لم يتمكّنوا من التفاهم، وبقيت مشاريع القوانين الإنتخابيّة مسجونة مهملة داخل أدراج اللجان النيابيّة؟! ألم ينتظروا ضوءاً أخضر خارجيّاً لإجراء الإنتخابات النيابيّة في موعدها الدستوري، وعندما تأخّر سارعوا الى التمديد للمجلس النيابي؟! ألم ينتظروا ضوءاً أخضر خارجيّاً لتشكيل الحكومة، وعندما تأخر استنزف المواطنون من أعمارهم واقتصادهم وأمنهم عشرة أشهر من التخبّط والتقوقع والدوران في حلقة التكليف؟!

حتى الإستحقاق الرئاسي، وهو ذروة المُرتجى، فإنّ الكلام عنه يبقى بحاجة الى صدقية غير متوافرة. هناك كلام جميل وكبير يقال، وأوصاف تطلق، من رئيس قوي، الى رئيس على مستوى تحديات المرحلة، الى رئيس يعبّر عن إرادة اللبنانيين وتطلعاتهم، علماً بأن اللبنانيين – وهنا بيت القصيد – يؤمنون إيماناً وطيداً، وفي نفوسهم وعقولهم واقتناعاتهم بأنهم أعجز من اختيار رئيس، ومن التفاهم على مواصفاته، وإنّ المهمّة موكولة بكاملها الى الخارج من ألفها حتى يائها. ولذلك، ينظرون وينتظرون ما يجري في العراق، وسوريا، وماذا تريد طهران؟

وأين تقف المملكة العربيّة السعوديّة؟ وماذا يجري في تركيا وحولها؟ وأين فرنسا ودول الإتحاد الأوروبي؟ وكيف تفكّر الولايات المتحدة في هذه المرحلة ومعها روسيا الإتحاديّة، وأين لبنان من كل هذا الضجيج السياسي والديبلوماسي؟

وحده الفاتيكان عينه على الصيغة، والميثاق، والحوار والتفاعل بين هذا الكمّ من العشائر، والقبائل، والعائلات، والطوائف، والمذاهب، والمشارب، والفئويات، ويرى في ذلك نموذجاً فريداً، ومختبراً جيداً يمكن المحافظة عليه، لأنه إن لم يؤد الى نتائج إيجابيّة مرجوّة يمكن البناء عليها، فعلى الأقل لا يسبب ضرراً بالغاً للآخرين، ولا أذى معنويّاً لأي مجموعة. أما الدول الأخرى المتورّطة أو المعنيّة، سواء كانت شقيقة او صديقة، لم تعد تنظر الى هذا اللبنان كقيمة ثقافية حواريّة حضاريّة، بل كقيمة نفطيّة.

عين الخارج على نفط لبنان وغازه، ونظرتها الى هذا اللبنان إنما تأتي من خلال نظرتها الى مصالحها في نفطه وغازه. لقد تغيّرت الحسابات ومعها المفاهيم والنظرات، إنها لعبة الأمم التي هي لعبة المصالح والمنافع والمغانم. اللبنانيون يراهنون على الخارج، والخارج يراهن على مصالحه، وضمان هذه المصالح هو الذي يسرّع الحلول والمخارج، وإذا كان الاستحقاق الرئاسي هو الضاغط راهناً، فهذا ما ستقررّه التفاهمات حول النفط والغاز. وفي النهاية، إن شركات التنقيب، ومَن وراءها من دول ومخابرات ومصالح، هي من سينتخب عمليّاً رئيس جمهوريّة لبنان؟!

السابق
أصوات الإنفجارات في الهرمل ناتجة عن المعارك العنيفة بسوريا
التالي
إيران بعد الثورة.. سلطة الحاكم المطلق